معركة السّبَلَة
تقع "السبله" في الشمال الشرقي من مدينة الزلفي ، وهي روضة منبسطة فسيحة ، يصب فيها وادي مرخ ، الذي ينحدر من مرتفعات اليمامة الشمالية ومن وادي الُغاط حتى يصب في روضة السّبَلَة .
أسباب المعركة :
كان الملك عبدالعزيز يرغب في تطوير البلاد وتوطيد أركان المملكة والسيطرة عليها ومعرفة مايدورفي أقطارها الشاسعة ، ولم يكن ذلك ممكناً إلاّ بالاستعانة بالهاتف والتلغراف والسيارات والطائرات، وما إلى ذلك من وسائل التقنية الحديثة التي ظهرت في ذلك العصر.
وكان زعيما الإخوان ، فيصل الدّويش وسلطان بن بجاد ، يعارضان التطوير الإصلاحي من جهة، ويرغبان في غزو الحدود العراقية من جهة أخرى ، فضلاً عن حلمهما بالجاه والمُلك ، ورغبتهما في البقاء على الحالة البدوية الصحراوية.
وكان الملك عبدالعزيز، بعد أن فرغ من فتح الحجاز وعسير، يسعى لإقامة المشاريع الإصلاحية الممكنة، وربط البلاد بعضها ببعض بواسطة الاتصالات السّلكية واللاسلكية.
ولكن الإخوان استنكروا هذه الأعمال الإصلاحية وعارضوها ، وأنشأوا جيشاً من أعراب البادية ، بعد أن أوغروا صدورهم ضد الملك عبدالعزيز وسياسته.
اتفق ابن بجاد والدّويش على الخروج عن طاعة ابن سعود وإثارة البلبلة وإعلان الاستنكار لأعماله الإصلاحية ، واعتبروا أن حركتهم هي "محاربة البدع" .عقدوا اجتماعا في بلدة الأرطاوية ، وانضم إليهما ضيدان بن حثلين رئيس قبيلة العجمان ، وفي ذلك الاجتماع المنعقد عام 1344هـ، اتفقوا على الخروج عن طاعة الملك .
وصلت أخبار الفتنة إلى الملك عبدالعزيز، وكان يومئذ في الحجاز، فأسرع إلى الرياض ودعا العلماء والوجهاء ورؤساء القبائل ، ومنهم الدّويش وابن بجاد وضيدان، إلى مؤتمر يحضره الجميع في الرياض.
عُقد المؤتمر في 25 رجب 1345هـ وحضره من زعماء الإخوان فيصل الدّويش وضيدان بن حثلين ، وتخلف سلطان بن بجاد ، وكانوا قد قدموا معارضتهم ومطالبهم ، وفيها رفضهم إدخال البرق والهاتف والسّيارة أرض المسلمين لأنها من أعمال المشركين، كما طالبوا إرغام شيعة الأحساء والقطيف بالدخول في الإسلام وإلاّ يقتلوا أويخرجوا من بلاد المسلمين.
فأجاب الملك عبدالعزيز بأن كل شيء سيتم وفقاً للشريعة الإسلامية، ثم عُرضت مطالبهم على أكثر من خمسة عشر عالماً ، فأفتوا بأن الإصلاحات ليس فيها ما يُخل بالشريعة الإسلامية، لا ديناً ولا عقيدة؛ وأنه لا يجوز شق عصا الطاعة والخروج على إمام المسلمين. فاعتبر قادة الإخوان هذه الفتوى ضدهم وفي صالح الملك عبدالعزيز، وتعاهدوا على مقاومة سياسته والوقوف في طريقه الإصلاحي ، وأخذ كل منهم يُغِير على القبائل المجاورة له ويستبيح أموالها، فأغار الدّويش على الحدود العراقية في أوائل عام 1346هـ وقتل جنود (مخفر البصيه) وبعض العمال، وقد أثارت هذه التصرفات الفتنة بين الملك عبدالعزيز والإنجليز.
طلب الملك عبدالعزيز عقد مؤتمرفي "جدة"، وحضره المندوب البريطاني والمندوب العراقي، ولكن لم تسفر المحادثات عن نتيجة.
عاد الملك عبدالعزيز إلى الرياض ودعا إلى عقد مؤتمر عُرف "بالجمعية العمومية"، في 22 جمادى الأولى من عام 1347هـ وحضره عدد كبير من العلماء وشيوخ القبائل والأمراء والإخوان، ولكن زعماء الإخوان الثلاثة امتنعوا عن الحضور، وكان الملك قد عرض على المؤتمر تنازله عن الحكم لمن يرونه من آل سعود، ولكن الحاضرين رفضوا هذا الرأي وثاروا على زعماء الإخوان الثلاثة ومن شايعهم من القبائل، وطلبوا من الملك عبدالعزيز أن يأذن لهم بحربهم والقضاء عليهم.
وفي شهر رجب 1347 هـ أعدّ الدّويش وابن بجاد جيشاً تحت قيادتهما وانضم إليهما فرحان بن مشهور من الرّولة ، الذي التف حوله أفراد من قبيلتي عنزة وشمر وبعض العجمان، واستفتحوا تمردهم بالغارة الأولى من الدّويش وابن بجاد على قافلة النجديين العزل في الجميمة، وذلك في يوم الأحد 15 شعبان 1347هـ، ونهبوا ما تحمله القافلة واستباحوا الدماء، ووصلت أخبارهم إلى الملك عبدالعزيز في الرياض.
عندما علم الملك بمخطط زعماء التمرد ، بعث برسالة إلى عبدالعزيز بن مساعد أمير حائل وطلب منه عرقلة مسيرة فرحان بن مشهور الذي كان قادماً من الشمال للمشاركة في التمرد، كما أرسل إلى عبدالله بن جلوي في الأحساء ، فجهز جيشاً بقيادة ابنه فهد ليتوجه لصد قبيلتي شمر والعجمان.
وبعد أن أمّن الملك عبدالعزيز ناحيتي الشمال والشرق، تحرك من الرياض في جيش قوي من أهل العارض وحرب وعتيبة وسبيع ، في 22 رمضان 1347هـ ، وسار بقواته نحو بريدة عاصمة القصيم.
فلمّا دخل بريدة ، اجتمع بأعيان القصيم من الحاضرة والبادية، وقدموا له تقارير عن الدّويش وأتباعه، ثم أمر بالرحيل إلى الزلفي ، وسار الى النبقية ، التي قرر الإقامة بها حتى يصل ابناه سعود ومحمد، وكانا يحملان أخبار الدّويش وابن بجاد ، فعرف بعد وصولهما أن المتمردين أرسلوا مجموعة قوامها ثلاثون رجلاً من عتيبة إلى الزلفي لإثارة سكانها ضد ابن سعود، وكانت خطتهم الاستيلاء على حصون الزلفي، بعد موافقة أهلها على صد ابن سعود عنها ومنع جيشه من التزود بالماء منها. وتحسباً لذلك، أرسل الملك عبدالعزيز ما يزيد على خمسمائة مقاتل لاحتلال الزلفي، والقبض على من يجدونه بها من المعارضين.
وبعد نزوله الزلفي ، أرسل الملك عبدالعزيز أحد القضاة الشرعيين ، وهوالشيخ عبدالله العنقري ، إلى معسكر الدّويش وابن بجاد، وطلب منهم حل النزاع وحقن الدماء ، والتحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله أمام القضاء الشرعي ، ليكون الحكم له أو عليه.
وبعد وصول القاضي إلى معسكر الدّويش وابن بجاد، وعداه بالحضور إلى معسكر الملك عبدالعزيز في الصّباح الباكر ، ولكنهما أرسلا نيابة عنهما ماجد بن خثيلة، الذي رفض أن يسلم على الملك عبدالعزيزعندما دخل عليه ، لأنه في ظنه مبتدعٌ مفارقٌ للجماعة، كما أشاع الدّويش وابن بجاد عن الملك عبدالعزيز.
غضب الملك عبدالعزيز لهذا التصرف ، وقال لماجد: عد للدّويش وابن بجاد وأخبرهما أنه يلزم حضورهما مثل ما وعدا، فإن لم يفيا بوعدهما صباح غد، فإننا سنهجم عليهم ، فإذا أرادا أن يحقنا دماءهما ودماء المسلمين ، فليستسلموا بلا قيد أو شرط ، والشريعة هي الحكم بيننا.
عندما عاد ابن خثيلة يحمل التهديد والوعيد، تحرك الدّويش وحده في الصباح ، قاصداً معسكر الملك عبدالعزيز، فاستقبله الملك عبدالعزيز، وبحث معه أمر عصيانهم وأسباب اعتدائهم على قافلة ابن شريدة ، من أهل القصيم . وأدرك الدّويش أن ذلك الاعتداء أغضب الملك عبدالعزيز كثيراً ، فطلب العفو عن كل ما صدر منه، واعتذر عن أفعاله، وأبدى الاستعداد لدفع ثمن الإبل التي نهبوها.
صَدّق الملك عبدالعزيز ما قاله الدّويش، وعفا عنه وعن قومه جميعاً، وأعطاه مبلغاً من المال وأكرمه ، واتفقا على أن يذهب الدّويش إلى قومه ويخبرهم بعفو الملك عبدالعزيز عنهم ، على أن يعود صباح اليوم التالي ومعه ابن بجاد.
ثم عقد الملك عبدالعزيز اجتماعاً مع رؤساء قواته من القبائل، وأخبرهم بنتائج مباحثاته مع الدّويش، فرفض أكثرهم العفو عن الدّويش وقومه، لأنهم خرجوا على الإمام وشقوا عصا الطاعة. وكان أشدّ الرؤساء معارضة للملك عبدالعزيز (محسن الفرم)، من شيوخ قبيلة حرب.
فقال الملك عبدالعزيز: اُنظروا إلى سير الدّويش، فإن ذهب إلى قومه ولم يلتفت خلفه أو إلى أي ناحية، فيكون قد تمسك بالعهد ، أمّا إن فعل شيئاً من ذلك، أو أوقف فرسه واستدار بها، فهذا علامة نقضه للعهد، والتفاته دليل على أنه يختار الناحية التي يفكر في مهاجمتنا منها، فراقبوا سيره وحركاته.
بعد أن غادر الدّويش معسكر الملك عبدالعزيز، أوقف فرسه واستدار ثلاث دورات، ثم خفف سيره وأصبح يسير ببطء شديد ، وكان خلال سيره ينظر إلى الطريق، التي يمكن له منها الهجوم على معسكر ابن سعود أثناء الليل.
وكان الملك عبدالعزيز قد أخفي عن عيون الدّويش عدداً من الأمراء وشيوخ القبائل وأمرهم بعدم الحركة والتّجول، مما جعل الدّويش يظن أن الملك عبدالعزيز وحده.أسرع الدّويش في سيره حتى وصل قومه في شرق الروضة ، وما أن وصل إليهم حتى صاح فيهم: "أبشروا بالغنائم والأموال استعدوا يالاخوان .. يالله يالاخوان" . فلما اجتمعوا حوله أخذوا يسألونه، ماذا رأى؟ وكم عدد القوات والغنائم التي مع ابن سعود؟ فكان جوابه لهم: "اطمئنوا فقد رأيت "حضرياً" معه قليل من "الحضر" لا يعرفون إلاّ النوم على "الدّواشج" (أي المراتب)، ولم أرى حوله سوى الطبابيخ ، ووجدت أموالاً كثيرة ، غداً سنقهره ونستولي عليها" .
واتفق الدّويش مع ابن بجاد على الهجوم، وعدم الالتزام بالوعد أوالعهد الذي قطعه الدّويش على نفسه.
انتظر الملك عبدالعزيز، حسب الوعد بينه وبين الدّويش، فلم يحضر أحد. فبعث من يستطلع احوال المتمردين ، فجائه الخبر بأن المتمردين يعدون للهجوم، وأنهم بنوا بعض التحصينات الدفاعية ، وسيكون هجومهم في الليل من ذلك اليوم.
أمر الملك عبدالعزيز قواته بالتحرك إلى روضة السّبَلَة، وشاهد المتمردون حشود الملك عبدالعزيز وهي تحط إلى الغرب من وادي مرخ ، وظهرلهم ضخامة القوات ، فأرسلوا إلى الملك عبدالعزيز خطاباً، (ولعلها كانت خطة للغدر والخيانة)، جاء فيه "إننا نطلب منك شريعة الله وسنة نبيه ورسوله ونطلب تحكيم العلماء الضالعين في أحكامهم ممن معنا وممن معكم ، وما يحكمون به نرتضيه ونوافق عليه". وطلبوا أن يكون ذلك في اجتماع يضم الطرفين ، ونصبوا خيمة للاجتماع ، ثم أردف الدّويش خطاباً خاصاً منه للملك عبدالعزيز، يقدم فيه أعذاراً لتبرير موقفه ، محتجاً أن ابن بجاد وقومه رفضوا ما اتفق عليه معه.
تفاءل الملك عبدالعزيز بالخير، ووافق على طلبهم.
وفي الصباح الباكر من يوم الاجتماع أخفي المتمردون قوة عسكرية في الشجر الموالي لخيمة الاجتماع ، مهمتها مداهمة الخيمة بعد أن يدخلها الطرفان، وقتل الملك عبدالعزيز.
وبينما الملك عبدالعزيز خارج من معسكره إلى مقر الاجتماع ، إذا برسول من شقيقه الأمير محمد بن عبدالرحمن يخبره أن المتمردين محتشدون في الوادي ، لكن الملك عبدالعزيز لم يستجب لنُصح شقيقه ، وعندما أصرّ على الذهاب للاجتماع ، حال شقيقه محمد دون حضوره، بل أصدر أمراً بإرسال قوة قوامها سبعمائة مقاتل للهجوم على الخيمة والاستيلاء عليها وعلى من حولها، إذا أصرّ الملك عبدالعزيز على حضور الاجتماع.
فطلب الملك عبدالعزيز المنظار ونظر بنفسه إلى موقع الخيمة ، فإذا به يرى بعض الحشود تدخل وتختفي في الوادي ، فأرسل إلى الدّويش وابن حميد رسالة يناشدهما فيها التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله، وحقن دماء الأبرياء.
وما أن وصل رسول الملك عبدالعزيز إلى قادة المتمردين وعلموا محتويات الرسالة، حتى صاح الدّويش بأعلى صوته: القتال يالاخوان ... الجهاد يالاخوان ...
كان عدد قوات الملك عبدالعزيز: 4600 مقاتل، منهم 150 فارساً ، وعدد قوات الإخوان: 2400 مقاتل، منهم 80 فارساً.
في صباح اليوم التاسع عشر من شوال ، أمر الملك عبدالعزيز قواته أن تتقدم نحو معسكر خصومه، وكان الملك في القلب من تلك القوات، وجعل أخاه محمداً على ميسرة الخيالة، وابنه سعوداً على ميمنتها، ثم أمر بالهجوم ، فسار المشاة أولاً، واندلع الرصاص من كلا الطرفين، وكانت بداية هجوم قوات الملك عبدالعزيز على ابن بجاد واتباعه بالذات فصدوهم ، وفي أثناء ذلك أخذت فئة من قوات الملك عبدالعزيز تعود إلى مواقعها في المخيم السعودي ، فظن بعض الخصوم أن قوات الملك قد بدأت تنهزم، وتركوا مواقعهم الحصينة خلف المتاريس في أعلى الوادي ونزلوا مسرعين ليتعقبوا من ظنوهم منهزمين ، وكان مع الملك مفرزة مزودة بعدد من الرشاشات، فأمر قائدها ـ بعد أن أصبح الخصوم هدفاً سهلاً لها ـ بإطلاق النيران، فقُتل أعداد منهم نتيجة لذلك، وارتبك الباقون. ثم انقضت عليهم الخيالة باندفاع كبير وطوقتهم من أكثر الجهات، ولم تمر نصف ساعة على بدء القتال إلاّ وقد بدأوا في الانهزام، وتعقبتهم الخيالة قليلاً ، ثم كفوا عنهم بأمر من الملك، الذي لم يرد قتل مزيد منهم ، وأصيب الدّويش برصاصة في خاصرته، فحمله أحد اتباعه على فرسه إلى الأرطاوية، وتمكن فرسان من عتيبة من تغطية انسحاب زعيمهم ابن بجاد، فاتجه مع بعض أتباعه جنوباً وتفرقت فلول المنشقين من الإخوان؛ بعضهم اتجه إلى الأرطاوية التي لم تكن بعيدة عن ميدان المعركة، وبعضهم إلى أماكن أخرى .
بلغت خسائر الدّويش سبعين قتيلاً، وأكثر من مائة وعشرين جريحاً ـ من بينهم الدّويش نفسه الذي جُرح جرحاً خطيراً ـ كما فقدوا كل السلاح والذخائر والخيم ، وقدر عدد القتلى من قوات الملك عبدالعزيز بحوالي مئتي قتيل.
واصل الملك عبدالعزيز زحفه إلى الأرطاوية مطارداً المتمردين، وعندما أشرف عليها، أرسل إنذاراً قاطعاً بأن يسلم الدّويش نفسه فوراً، وتستسلم الأرطاوية ومن بها من دون قيد أو شرط .
أدرك الدّويش جدية التهديد والصدق في تنفيذه ، وأنه ومن معه لن يستطيعوا صدّ قوات الملك عبدالعزيز ، فسلّم نفسه، وكان محمولاً على أكتاف أعوانه لأن إصابته كانت بليغة. عندما شاهد الملك إصابة الدويش ، أمر له بالإسعاف الفوري، وكلف طبيبه، الدكتور مدحت شيخ الأرض، بعلاجه والاهتمام به حتى يبرأ.
أمّا سلطان بن بجاد، فقد أمره الملك عبدالعزيز بأن يسلم نفسه، في الرياض، ففعل.
وهكذا انتهت معركة السّبَلَة باندحار الإخوان، ولكن الفتنة عادت للظهور مرة أخرى.