تعييني سفيراً في السودان الشقيق

 

بعد أن من الله علي بالشفاء والعافية علي اثر حادث السيارة الذي وقع لي وأصيب به الأبناء في طريق الطائف ، تلقيت أمراً بالتوجه سفيراً مفوضاً ومندوباً فوق العادة إلي جمهورية السودان، وصدر أمر ملكي كريم بذلك في يوم 18 ربيع الثاني 1381 هجريه ، واتجهنا بالطائرة إلى الخرطوم عاصمة السودان، وكانت الرحلة شاقة وغير مريحة واستغرقت حوالي أربع ساعات ، وعندما وصلت إلي المطار وجدت في استقبالي مدير المراسم في وزارة الخارجية السودانية ومندوبا عن رئيس الجمهورية الفريق إبراهيم عبود ورئيس مجلس الثورة وكذلك القائم بأعمال السفارة السعودية محمد الرشيد بن ليلى ، وفي اليوم التالي ذهبت إلى وزارة الخارجية السودانية كما تقتضي به الأعراف الدبلوماسية ، وكان الوزير آنذاك أحمد خير فقدمت له صورة من أوراق الاعتماد جريا علي العادة وكان اللقاء بيني وبين الوزير حاراً وكان كريماً في لقاءه مما جعلنا نتوقع خيراً لمستقبل العلاقات بين بلدينا بعد أن أصابها شيء من الفتور وعدم الاستقرار بسبب سحب السفير السعودي السابق .

وفي يوم 21من ربيع الثاني عام 1381هجرية أجريت مراسيم تقديم أوراق الاعتماد الرسمية ، ففي الساعة التاسعة صباحا زارني مدير المراسيم بوزارة الخارجية السودانية وكبير الياوران واصطحباني إلى القصر في سيارة الرئيس يرفرف عليها العلمان السعودي والسوداني . وعندما وصلنا إلى باب القصر نزلنا وفتشنا كركون الشرف ( الحرس الخاص ) الذي يعد عادة لاستقبال السفراء ، ثم دخلنا القصر الجمهوري الذي كان في السابق أيام الحكم الثنائي مقراً للحكم البريطاني ، ويري الداخل إلى القصر الجمهوري مجموعة من الأسلحة الأثرية القديمة كالخوذ والسيوف والرماح معلقة علي الجدران ، كما يوجد رشاش كبير موضوع علي الأرض، وفي الطابق الأول كان مقر مكتب الرئيس  فصعدنا إليه ووجدنا الرئيس ، وعندما أبصرني نهض واستقبلني استقبالاً كريماً وعانقته ثم ألقيت الكلمة التي كنت قد أعددتها ، وكانت وزارة الخارجية قد طلبت مني قبل إلقاء كلمتي صورة منها لكي يتم الاستعداد وإلقاء الرد عليها ، وتم ذلك الرد على كلمتي بمثلها ثم تناول الرئيس مني أوراق الاعتماد، وبعد ذلك تناولنا القهوة والمرطبات، وفي تلك الأثناء جرت أحاديث مجاملة وكان الطريق مهيئاً لكي يتحدث فخامته عن الأسباب التي دعت إلي سحب سلفي السفير السابق وأجبت فخامته بأنه لا ينبغي أن تؤثر هذه الأسباب على علاقة الدولتين فأجاب فخامته بقوله : ( وهو كذلك ) . وخرجت من عنده مسرورا بهذا اللقاء الجميل مع فخامته.


     التعاقد مع بعض الأساتذة السودانيين


بعد ثلاثة أشهر فقط من وجودي في السودان قام
الانقلاب في اليمن وكان من تأثير ذلك أن ساءت العلاقات السعودية المصرية وأخذَت في التدهورفسافرت إلي المملكة واتصلت بوزير المعرف واقترحت عليه أن يستقدم عددا من المدرسين من القطر السوداني بدلا من المدرسين المصريين الذين أخذت مصر تهدد بسحبهم ومنعهم من السفر إلي السعودية ، وعندما علم جلالة الملك بذلك الاقتراح أمر وزير المعارف بأخذ الاستعداد لتنفيذه ، وبعد عودتي إلي السودان بعثت وزارة المعارف السعودية شخصين من أبرز موظفيها هما الأستاذ سعيد بن جندول والأستاذ جميل أبو سليمان وعمَّدتهما بالتعاقد مع مدرسين سودانيين ، وعند وصولهم اتصلا بي لكي أجري الاتصالات الرسمية مع وزارة التربية السودانية لتحقيق الغرض من التعاقد، وتم الاتصال بوزارة التربية وطلبت منهم تزويدنا بعدد من المدرسين الرسميين لكي يتم التعاقد معهم للتدريس في المملكة وفق عقود مغرية ومميزات جيدة يحصلون عليها ، وكان الوزير السوداني في ذلك الوقت هو طلعت فريد فرفض ذلك الطلب واعتذر بأنه لا يوجد لديه مدرسين مؤهلين وأنه إذا رغبت المملكة بأن تختار عدداً من المدرسين في حدود أربعين مدرساً نبعثهم على حساب الدولة السعودية ليتدربوا على أصول التدريس خارج البلاد لمدة أربعة أشهر، فهم على استعداد لذلك . وعندما علمت أن ذلك هو اتجاه وزارة التربية في عدم التعاون معنا وان الحاجة ماسة إلى الحصول على مدرسيين رأيت أن من الأفضل أن اتصل بوزير الخارجية احمد خير، وكان المذكور له ميول طيبه تجاه المملكة وهو رجل طيب ومخلص لبلاده وشرحت له بأنني عرضت على الملك سعود موضوع جلب أساتذة من القطر السوداني للتدريس في المملكة وإن قصدي من ذلك مصلحة السودان والسودانيين وتقوية العلاقات بين البلدين بواسطة هذه البعثة .. وأخبرته بأنه مع وجود عدد كبير من المتخرجين من الجامعات السودانية ومعاهد المعلمين فإن هذه ستكون فرص للقيادة السودانية لكي تخفف من عبء توظيفهم بالعمل هناك ، واستحسن الوزير ذلك الرأي وقال لي: خذ ما تشاء وتعاقد مع من تشاء ولا تهتم بوزارة التربية ولا بغيرها. وكان الوزير يعني ما يقول، فطلبت حينئذ من مندوبي وزارة المعارف السعودية أن يباشرا عملهما في السفارة وأن يبدأوا في التعاقد الشخصي مع من يروه مؤهلاً لذلك حسب إحتياجاتهم .
وعندما علمت وزارة التربية بالأمر ذهلت لذلك ولم تستطع أن تعمل أي شيء لمعرفتها بموقف وزير الخارجية الذي تحمس للموضوع ، ولعلمهم بأنني على صلة طيبة وجيدة مع الرئيس إبراهيم عبود . واستطاعت وزارة المعارف السعودية الحصول على ما يقرب من سبعمائة مدرس سوداني
، وقمت بحث اللجنة على الإسراع والتعاقد دون شدة على أن يلغى عقد من لم تظهر كفاءته في العام التالي ويحتفظ بمن هم على مستوى أفضل ، وإن المهم الآن هو أن نسد الفراغ الذي تركه سحب الأساتذة المصريين من السعودية . وقد تم القيام ذلك فعلاً ونجح في التدريس ما يقارب الخمسمائة منهم والغي عقد مأتي شخص لأسباب سلوكية وأخلاقية حسب ما بلغني من المسئولين في وزارة المعارف بالمملكة ، وعندما عاد المدرسون الذين ألغيت عقودهم إلى السودان هالهم أن يتركوا تلك المملكة التي وجدوا فيها كل خير واطمئنان وقرروا أن يقوموا بتظاهره ضد المملكة في الخرطوم ، ولما علمت بذلك اتصلت فوراً بمجموعة من المدرسين السودانيين الذين ثبتت عقودهم في المملكة وشرحت لهم ما ينوي زملاؤهم عمله وأخبرتهم بأن الحكومة إذا بلغها ذلك فربما تلغي عقود الكل وفي هذا مأساة كبيرة بالنسبة لهم وسيكون هناك إحراج للحكومة السودانية .
فما كان من زعماء المدرسين إلا أن اتصلوا بزملائهم وهددوهم بأنهم سيقفون ضدهم إذا حاولوا التظاهر ضد المملكة وسيرغمونهم على التراجع و التفرق ، كما اتصلت بوزير الخارجية السودانية وأطلعته علي نوايا أولئك المشاغبين
، واخبرني معاليه أن الحكومة ستقوم بواجبها إذا حصل شي من ذلك  واتصل بوزير الداخلية وقال له إن السفير السعودي قادم إليك فاستمع إلى ما لديه ، وعندما تركت وزير الخارجية ذهبت إلى وزير الداخلية فاستقبلني وبحثت الأمر معه علي انفراد وقد طمأنني الوزير بأن شي من ذلك لن يحصل وستتم المراقبة التامة لتحركا تهم . فألغى المدرسون قرارهم بإجراء المظاهرة ، واستمر التعاقد مع المدرسين السودانيين وظل يتزايد يوماً بعد يوم .

                                                              
 الثورة الشعبية في السودان  

عندما عقد طلاب الجامعة مؤتمراً داخل
الحرم الجامعي ونددوا بسياسة الثورة ، خصوصا في الجنوب ، داهمهم البوليس واحتجزوا بعض الطلبة ، ولما حاول زملاؤهم تخليصهم من البوليس أطلق عليهم الرصاص فثارت ثورة الشعب الذي كان ينتظر الفرصة للثورة على رجال الحكم الذين كان من بينهم عددا من الضباط السياسيين من ذوي السيرة غيرة الحميدة ، فقام الشعب وفي مقدمتهم الطلاب بمسيرة نحو القصر وحاولوا اقتحامه فأطلق عليهم جنود من الجيش النار وقتل من جراء ذلك ما يقارب من خمسة عشر طالبا.
كان عبود رجلا طيباً
، وقد قال لي مرتين أو ثلاث  بأنني لا اقصد التسلط ولكني أحاول الإصلاح وعندما أري أن في استقالتي صلاحاً فسأستقيل ، ولما رأي المسألة تأزمت دعي عدداً من الضباط وقال لهم : ( لا يمكن أن تسفك دماء مواطنينا ولابد من أن نتفاوض مع الزعماء على أن نترك الحكم لهم بشرط أن لا يحاكموا أحدا منا ) فعارض بعض كبار الضباط ، وقام عدد آخر من الضباط الصغار الذين هم من الأنصار وقالوا: ( هذا هو الإجراء الصحيح وإذا لم تقبلوا فسنقوم نحن بثورة ضدكم ) . فرضخ الضباط المعارضين للفكرة وطلبوا من الزعماء أن يأتيهم وفد للتفاوض ، فتشكل وفد يتكون من الصادق المهدي واحمد المهدي وحسن الترابي والسيد عبدا لله الفاضل المهدي وعدد من زعماء البلاد، فحصل الاتفاق على أن يتخلى رجال الثورة عن الحكم وتشكل لجنة لتقوم بتشكيل حكومة مؤقتة ، وتعاهدوا على ذلك ، إلا أن الشيوعيون انتهزوا الفرصة واند سوا في هذه اللجنة وسعوا إلى أن يعهد إلى سر الختم بتشكيل الوزارة برئاسته لأنه سبق له أن عمل بالتدريس في الجنوب ظناً منهم انه سيتمكن من حل مسألة الجنوب وان الجنوبيين سيستجيبون له لأنهم يعرفونه ولمنزلته عندهم ، ولمّا حصل الخلاف بينهم - فالأنصار أرادوا أن يشكلوا الحكومة وعارضهم بيت الميرغني والشيوعيون - اتفقوا على هذا الرجل بناء على خبرته في الجنوب لان مسألة الجنوب أصبحت في نظر الجميع هي القضية الأولى ، ولكن الرجل اخلف ظنهم عن عمد أو جهل أو إغراء فادخل الشيوعيين الحكومة وصاروا أكثرية فيها وصار لهم صولة وجولة بعد أن كانوا مضطهدين من رجال الثورة ومنعوا من القيام بأي نشاط وصودرت ممتلكات الحزب الشيوعي ، فانتهزوا الفرصة وصدرت أوامر بالسماح لهم بالنشاط ، وكان الذين سمحوا لهم بذلك يتعللون بأن نشاطهم العلني أحسن من نشاطهم السري ، فقام الشيوعيون بنشاط كبير وأدت أعمالهم إلى سجن بعض الضباط ووزير الخارجية ، وخشي رجال الأنصار من ذلك فقام بيت المهدي بحركة واسعة واستدعوا عدداً كبيراً من الأنصار من الأقاليم فنجح بيت المهدي وشكل حكومة برئاسة محمد أحمد محجوب الذي كان وزيراً للخارجية في حكومة سر الختم ، وقد سبق أن قلت للسيد عبدا لله الفاضل بعدم تعيين محجوب في الخارجية لأني اعرفه وأنه رجل لا يهمه إلا نفسه والبروز على أكتاف الشعب ،فقال :أنا اعرفه وسوف لا نجعله في وزارة ذات أهمية . وكان عبدا لله – رحمه الله – صديقاً حميماً لي وبوا سطته حصلت الصداقة بيني وبين بيت المهدي وخصوصاً الإمام . ولما سقطت حكومة سر الختم طلب محجوب من الإمام ليرشحه لرئاسة الحكومة حيث ذهب الى بيت الإمام منفرداً وقبل يديه ورجليه ، كما أخبرني السيد عبدالله الذي عاتبته على تعيين المحجوب فقال: (ماذا اصنع جاء الى الإمام وقبل يديه ورجليه وقال أنا عبدك ومرني فأأتمر ) وأنخذع الإمام المسكين .
 وانعقدت الجمعية
التأسيسية لانتخاب أول رئيس لها ، فأنتخب الدكتور مبارك شداد بما يشبه الإجماع ، ثم جرى التصويت لانتخاب رئيس الوزراء فانتخب محجوب بتوجيه من الإمام . وبعد بضعة شهور بلغ الصادق السن القانونية التي تؤهله لعضوية الجمعية وتنازل أحد النواب عن دائرته للصادق فانتخب عضوا في الجمعية وحمل راية المعارضة هو وزوج أخته الدكتور حسن الترابي ، وبرز الخلاف الكامن بين الصادق والإمام الهادي لأن الصادق عندما توفي والده الصديق كان هو المرشح للإمامة بالوراثة حسب ما هو متبع عند الطائفة لكن عبدالله الفاضل كان رجلا كبيرا وهو أكبر عائلة المهدي سناً وهو ابن الفاضل بن محمد احمد المهدي اخو عبدالرحمن المهدي والصادق شاب لم يتجاوز الثلاثين من العمر وأعلن عبدالله في المأتم بأن الصدّيق أوصى بأن الإمام من بعده أخوه الهادي ، فبقيت في نفس الصادق، وكان السيد عبدالله يأمل أن الهادي سيأخذ برأيه كما كان عمه الإمام عبدالرحمن ، ولكن الهادي تسلط عليه محجوب بأساليبه الشيطانية وتملقه ، إلا أنه لم يتمكن من السيطرة عليه تماماً أثناء حياة السيد عبدالله الذي كان ينصح الإمام الهادي ويضغط عليه في كثير من المسائل السياسية والعائلية، ولما توفي عبدالله توحد محجوب بالإمام وتسلط عليه وانضم إليه الدكتور عبدالحميد صالح والفاضل أبن عبدالله وكانوا يعلمون أن الإمام إذا مشى في الطريق القويم اتجه نحوالصادق ابن أخيه الذي هو من خيرة الشباب في دينه وخلقه ونزاهته وان الطريق امامهم ستكون مسدودة لأن الصادق يهدف إلى مصلحة الوطن والشعب وهؤلاء لا تهمهم إلا مصالحهم الشخصية. ولم يدخل حكومة محجوب من الشيوعيين المعروفين أحد إلا بعض من دخل الإنتخابات بصفتهم مستقلين مثل فاطمة أحمد ابراهيم وغيرها والتي لم تدخل وزارة من قبل . وقدم هؤلاء الشيوعيون مشروعاً يطلبون فيه محاكمة الضباط المسجونيين ومصادرة أملاكهم ،
أما عبود فلم يسجن ولم يتعرض له أحد لأنه رجل طيب وبقي في بيته .

بعد بروز نشاط الحزب الشيوعي خشيت من نجاحه ، لان الشيوعية العالمية تعضده كل التعضيد وتبذل له اموالاً طائلة ، فسعيت لتكوين جبهة تضم انصار السنة والإخوان المسلمين ومن اراد من أتباع الطوائف الدينية الانضمام لهم ، وكلمت رئيس حركة انصار السنة الشيخ محمد هاشم الهدية واخوانه من انصار السنه ، وكان الانصار قد برزوا بعد مجيئي إلي السودان نتيجة للجهود التي بذلتها لدي جلالة الملك لمساعدتهم واستجاب الملك مشكورا لطلباتي وكان انصار السنة يستجبيون لرأيي ـ جزاهم الله خيرا ـ فقلت لهم : (تعلمون أن الشيوعيين قد بروزا وأخشي من توسعهم ، والمشاكل التي بينكم وبين الاخوان المسلمين هي خلافات جانبية ، فأري التجاوز عن هذه الخلافات لأن الأمر اعظم من ذلك فالشيوعيون يهددون كيان الإسلام بصفة جماعية وأري أن تتفقوا مع الاخوان المسلمين وتكونوا جبهة واحدة وتقبلوا من ينضم إليها من المسلمين الآخرين ممن يكافحون الشيوعية وتتركون الخلافات المذهبية ) فاستجابوا لذلك وقالوا : ( ولكن قدلايقبل الأخوان المسلمين بذلك ) فاتصلت بزعماء الإخوان المسلمين ، الدكتور الترابي وموسي ضرار ومحمد عمر ، فاستجابوا للطلب . وتكونت جبهة الميثاق الإسلامي برئاسة الشيخ الفاضل الجليل محجوب عثمان اسحاق الذي هو الأن عضواً في رابطة العالم الإسلامي ، وعضوية محمد هاشم الهدية وغيرهم من الإخوان وأنصار السنة ، وانتخب الدكتور حسن الترابي أميناً عاماً للجبهة ، وأنضم إليهم أناس عديدون من الطوائف الإسلامية وقاموا بنشاط كبير حتى قضوا على الشيوعيين أو كادوا يقضون عليهم .
بعد أن شكل محجوب الوزارة برزت الخلافات
بينه وبين
الأزهري  الذي اصبح رئيسا للجمهورية ، وكان محجوب رجلاً فيه عنجهية ويتحدي الأزهري دائماً ، وفي أحد الأيام أقام معهد أم درمان الإسلامي اجتماعاً دينياً لإلقاء بعض المحاضرات وكان من جملة المحاضرين السيدة سعاد الفاتح التي ألقت محاضرة في الأخلاق الإسلامية وتعرضت لفساد مذهب الشيوعية وكيف أن المذهب لا يقيم وزناً للأخلاق بل أنه يهدمها ، فقام أحد طلاب المعهد وقال : أفتخر باني شيوعي والأخلاق ليس لها قيمة فقد حصل في الإسلام كذا وكذا !! وتعرض الى موضوع الإفك - حتى بيت النبوة لم يسلم من ذلك - فقام عليه المجتمعون وضربوه وكانوا يريدون قتله فخلصه البوليس منهم ، وفي اليوم الثاني قام الإسلاميون بمظاهرة كبري احتجاجاً على ذلك وطالبوا بحل الحزب فوراً ، وعندما مروا على الرئيس الأزهري أطل عليهم وقال : " لست أطلب منكم أن تتخلوا عن مطالبكم ولكني أطلب منكم الانتظار سويعات فإن لم تقم الحكومة بواجبها فسوف أنزل معكم إلي الشارع لاقود المظاهرة " . ولما سمعت بذلك سررت سروراً عظيماً وقلت هذا نصر للمسلمين عموماً ولجبهة الميثاق الإسلامي خصوصاً ، وطلبت منه مقابلة خاصة فحدد لي اليوم الثاني فزرته في بيته . وكنت أزور الرئيس الأزهري دائماً في القصر زيارات للمجاملة وكان يكرمني دائماً ، أما هذه المرة فكنت أقصد منها أن انشيء معه صداقة ومودة ، وعندما زرته قلت له : " يا فخامة الرئيس لقد كسبت بعملك هذا شعبية كبيرة " وشكرته على هذا الاتجاه الإسلامي فشكرني هوالآخر على مشاعري وتوطدت العلاقة بيني وبينه.

قام الاسلاميون بتقديم مشروع إلى الجمعية لحل الحزب الشيوعي ، وتجمهر الشعب حول مقر الجمعية مطالبين بحل الحزب ، وأمام هذا الضغط الشعبي تم حل الحزب وطرد أعضائه الذين دخلوا الجمعية باسمه ولم يبق سوى من دخلوا الجمعية كمستقلين .
وبسبب هذه الحوادث والتغيرات ذهبت الى المملكة وعرضت الأمر على جلالة الملك ورجوت منه مساعدة الجبهة مالياً ، فتفضل جلالته وأمر لهم بمساعدة كريمة
، وكان جلالته قد ساعد من قبل أنصار السنة المحمدية عندما طلبوا من جلالته مساعدتهم لبناء مسجدهم ، وكان حجم المسجد صغيراً جداً لا يتجاوز 10×15 متراً وبنوه بايديهم وسقفوه بالواح الزنك ، فأمر جلالته وتحت اشرافي بيناء مسجد لهم مساحته 20×25 متراً ذو سقف واحد وبدون أعمدة فكان في منتهى الروعة والجمال ، وقد تبرعت له بفرش وسجاد طلبته من لندن ووضعت به خمس مكيفات وثمانية عشر مروحة كهربائية، وعندما زار الملك السودان دعي الى ذلك المسجد فأعجب جلالته بروعة البناء . وكان رحمه الله دائم الاستجابة للأعمال الخيرية .


                                                            
زيارة جلالة الملك الى السودان


اثناء زيارتي للمملكة عرضت على جلالة الملك زيارة السودان ، فقال لي : " اذا
جائتنا دعوة قبلناها " ولما رجعت الى السودان وقابلت الامام والأزهري اقترحت عليهما دعوة جلالته فاستحسنوا ذلك وقدموا لجلالته دعوة رسمية فقبلها وحدد لها اليوم السابع عشر من ذي القعدة سنة 1385هـ . وفعلاً زار جلالته السودان في ذلك التاريخ واستقبل استقبالاً لا نظيرله من قبل واقيمت لجلالته حفلات رائعة في نيالا حضرها ما يقرب من خمسين ألف فارس كما اقام له الامام حفلاً في جزيرة أبا وعرضوا تمثيلية عن غزو المصريين للجزيرة فكانت تمثيلية رائعة ، وزار جلالته خشم القربة التي تسمي الآن بحلفا الجديدة التي ارغم اهل حلفا على السكني فيها عندما تمت اتفاقية السد العالي المشئومة على السودان ، وكانت هذه الاتفاقية من العوامل التي جعلت الشعب يكره رجال الثورة ، ففي زمن حكومة عبدالله خليل دفعت مصر للسودان مقابل هذه الاتفاقية اربعة وثلاثين مليوناً فلم تقبل السودان وطالبوا بأكثر من ذلك وأن يكون هناك ايجار سنوي، ولكن رجال الثورة قبلوا بخمسة عشر مليوناً فقط وبدون أيجار سنوي، وكان السودانيون يرمون من وراء الإيجار أبقاء المنطقة ملك لهم، أما في هذه الاتفاقية فلم يبقى لهم أي حق فيها.
وانتهت زيارة جلالة الملك على احسن ما يكون ، وعند صياغة البيان الختامي لم يوافق محجوب على  بعض الجمل التي شم منها تأييد دعوة جلالته للتضامن الاسلامي وبدلها بجمل اخرى .
وفي رجب عام 1385هـ
، على ما أذكر ، وجه جلالته الدعوة الى الرئيس الأزهري فقبلها شاكراً ، وحدد لتلك الزيارة موعدا في 17 شعبان، وفعلاً جرت الزيارة في الموعد المحدد
.

كنت قد اقترحت على جلالته ارسال طائرة خاصة لنقل الأزهري الى المملكة فوافق جلالته ووصل الأزهري الى الرياض راساً من الخرطوم واستقبل استقبالاً حاراً ، وكنت مرافقاً له ، وفي يوم وصولنا الرياض بعد المغرب اقام جلالته حفلاً كبيراً لفخامته تبودلت فيه الخطب والمجاملات ، وكان من المقرر في برنامج الزيارة انه بعد وصوله الى الرياض يقوم في اليوم الثاني بزيارة الطائف وينزل منه على الطريق الذي تم انشاؤه حديثاً بين مكة والطائف والذي يعتبر من أروع الطرق في العالم بسعته وسهولته . في الصباح الباكر ذهبنا الى الطائف وتناولنا طعام الغذاء الخاص في بيت الضيافة ، وبعد العصر احرم الجميع بالعمرة وتوجهنا الى مكة وصلينا فيها المغرب ثم طافوا وسعوا وذهبنا بعدها الى جدة وزاروا المدرسة النموذجية وأقام لهم صاحب السمو الملكي الأمير مشعل بن عبد العزيز أمير منطقة مكة المكرمة احتفالاً وعرضة أعجبوا بهاكثيرا ، وفي الصباح توجهنا الى المدينة وزاروا المسجد النبوي الشريف وسلموا على الرسول الكريم (صلي لله عليه وسلم ) وصلوا الجمعة في المسجد النبوي وتغدوا غداء خاصاً في قصر الضيافة الذي خصص لنزولهم ، وفي المساء اقام لهم أمير المدينة المنورة صاحب السمو الملكي الأمير عبدالمحسن بن عبدالعزيز حفل عشاء ، ثم فتحت لهم القبة الشريفة ، وكانت هذه من أهم ما حصلوا عليه في زيارتهم  كما صرحوا لي بذلك ، وبعد صلاة الصبح في المسجد توجهنا بالطائره رأساً الى الظهران واستقبلهم الأمير سعود بن جلوي – رحمه الله ـ مقابلة كريمة وأقام لهم حفل غداء فاخر ، وفي يوم الأحد اقام الأزهري حفل تكريم لجلالته في قصر الناصرية بالرياض ، ووقع البيان المشترك الذي اذيع من المملكة والسودان في ليلة الأثنين وسافرنا من الرياض بعد العصر بعد أن جرى لفخامته وداع رسمي ووصلنا الى الخرطوم الساعة الثانية عشر ( بالتوقيت العربي ) أي وقت الغروب وتمت الزيارة على أحسن ما يكون .


                                                                 الصراع الحزبي في السودان


بعد
عودة الرئيس من المملكة قامت المعارضة بدعاية ضد محجوب وتقدمت بمشروع لسحب الثقة من حكومته ، فسقطت وفاز الصادق وشكل حكومته لأول مرة ، وكان الصادق يرى عدم ادخال العناصر الضعيفة في حكومته إلا أنه اضطر الىادخال بعض هذه العناصر مكرهاً أمام ضغط الحزب الوطني الاتحادي ، وحصل خلاف كبير بين الصادق والأزهري فذهبت الى الأزهري وقلت له " هذه مؤامرة وليست ضد الصادق فحسب وانما هي ضدك ايضاً ومن رأيي أن تفوت عليهم الفرصة " فقال : " ولكن الصادق لا يتجاوب معي "، ونظراً للصداقة التي نشأت بيني وبين الصادق مؤخراً عندما رأيت انه متجه نحو الاسلام ومحاربة الشيوعية ـ وهذا ما يهمني بالدرجة الأولي ـ قلت له : أنا مستعد للسعي بينكم لكي تتعاونوا لأن تعاونك مع الصادق سيزيد من شعبيتك فهو رجل نظيف ومتدين وإذا عاهدك فلن يخونك وسوف تكسب رئاسة الجمهورية ، لأنه لا يرغب فيها كما أنه لا يرغب أن يتولاها عمه فقال : لابأس اعمل ماتراه .
فذهبت الى عبد الرحمن عبدون
الذي كان عضوا في مجلس السيادة ومن كبار رجالات حزب الأمة وطلبت منه العمل معي على ذلك فقام بواجبه خير قيام ، ولكن لم يفلح المسعي بعد أن أوشك على النجاح وهذا من سوء حظ السودان أجمع لأنه كان فيه مصلحة للجميع فالهدف منه فيالمرتبة الأولىالقضاءعلىالشيوعية التي يحاول الصادق القضا عليها ، ولما اقيمت الانتخابات سقط الصادق وحسن الترابي امام منافسيهم بفعل دعاية الحكومة والاموال التي بذلها الامام والأشاعه بين جماهير الانصار ان من لم ينتخب مرشح الامام فهو في النار .
وحدث خلاف شديد بين جناح ال
إمام والحزب الا
تحادي على منصب رئاسة الحكومه فتدخل الأزهري وتم تعيين محجوب رئيسا للوزراء وعليعبدالرحمن نائباله ووزيراً للخارجيه.
وكنت على اتصال دائم بجلالة الملك لاطلاع جلالته والعمل
بتوجيهاته الكريمة .


                                                                       استقالتي من منصبي في السودان


كان هناك فتوراً بيني وبين محمد محجوب
، وعداء بيني وبين علي عبد الرحمن لأنه يتعاون مع الشيوعية ، وكان قد سبق أن زرت السيد علي الميرغي قبل وفاته بعام تقريباً ونصحته من علي عبدالرحمن الذي شوه سمعتهم كطائفة اسلامية بتعاونه مع الشيوعيين ، ويظهر أن السيد علي تأثر بكلامي وحاول ابعاد علي عبد الرحمن من رئاسة الحزب وتولية ابنه أحمد الذي اشرت عليه بأن يوليه ، أما ابنه الأكبر فاقترحت عليه ان يوليه زعامة الطائفة .
ولما تشكلت الحكومة بالتشكيل المذكور اعلاه قررت الاستقالة التي فكرت بها سابقاً لظروفي العائليه والصحيه ، فوصلت الرياض في 4/1/1388هجرية وتقدمت لجلالة الملك باستقالتي ، وهذا نصها :


                   بسم الله الرحمن الرحيم
حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم فيصل ايده الله بنصره وتوفيقه
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مولاي:
نظراً لظروفي العائلية والصحية فاني اتقدم لجلالتكم باستقالتي راجياً أن تتكرموا بقبولها والأمر باحالتي على التقاعد واذابدى لجلالتكم أي لزوم في أي عمل خلاف وزارة الخارجية فأني على اتم استعداد بالتضحية براحتي في سبيل رضا الله ثم رضا جلالتكم.
حفظكم الله وابقاكم لنصرة دينه متمتعين بالصحة والتوفيق مولاي المعظم .
                                                                                              الخادم
                                    
محمد العبيكان


وتفضل جلالته بقبول استقالتي . ثم ذهبت إلى الخرطوم لتصفية أعمالي التي أنهيتها في 16/3/1988. وعندما علم إخواننا السودانيين باستقالتي أسفوا وحاولوا أن يبرقوا لجلالته بعدم المضي في قبول الاستقالة ، فقلت لهم : " أنا مصمم على مغادرة السودان بالرغم من اسفي علي فراقكم ولكن ظروفي لا تسمح لي بالبقاء أكثر مما بقيت " .
وبد
أوا في إقامة احتفالات التوديع الرسمية والعملية وتبعهم كثيرون من عامة الشعب وكذلك السلك الدبلوماسي الذي قدم لي هدية من السفراء وهي عبارة عن صينية من الفضة منقوش عليها أسماؤهم جميعآ وهدايا من بعض الأصدقاء ومن موظفي سفارتنا وكل هذه الهدايا موجوده في مكتبي لأنني اعتز بهذا كثيرآ .

وأثناء وجودي في السودان عقد مؤتمرين للسفراء السعوديين في البلاد العربية الأول في عام 1384هجرية والثاني عام 1386 هجرية ، وكلاهما كانا في جدة وقد طلب من السفراء في المؤتمر الأخير ان يقدم كل سفير تقريراً عن البلاد التي يمثل فيها جلالته وحاول بعض الزملاء أن يدرس اقتراحاً تقدم به احدهم لتغيير العلم وابداله بعلم ليس فيه عبارة لاإله إلاالله محمد رسول الله وقال إننا نحرج عندما تنكّس أعلام الدول في حادثٍ ما وعلمنا لاينكس ، فاعترضت على ذلك وقلت : ليس هناك أي احراج فإن الجميع يعلمون انه علم ديني وسبق وان حاول البعض في إحدى المنا سبات الاستئذان من جلالة الملك في تنكيس العلم فقال جلالته : هذا علمنا الديني ولايمكن أن ننكسه في اي حادث ، فاقتنعوا بما قلت ، وانتهى المؤتمر، ولم يعقد مثله بعد ذلك .

 

                                                                           الوضع في السودان


وقبل أن اختم حديثي عن السودان لا بد لي من الإشارة ولو بإيجاز إلى
الوضع في السودان وجغرافية  الطبيعية والسياسية .
 
فالسودان قطر أفريقي مساحته مليون ميل مربع ، أرضه سهول خصبة وبعض الهضاب في الغرب وهي خصبة ايضاً منها جبل مرة الذي يمتاز بطيب هوائه وصلاحية زراعته لجميع الفواكه وفيه شلالات عذبة ، وقد قمت بزيارته وودت لو أن حكومة السودان سهلت الطريق إليه لأننا عندما ذهبنا إليه عن طريق منطقة نيالا استغرق الوقت سبع ساعات بالسيارات في طريق وعره اشبه بطريق الشفاء في الطائف سابقاً ، وبإمكان الحكومة السودانية أن تجعل من هذا المكان منطقة سياحية عظيمة وخصوصاً إذا تم إنشاء فندق لاستراحة الزوار لأن منطقة الاستراحة الموجودة حالياً صغيرة ولا يتوفر فيها وسائل الراحة ، وفي السودان جبال قرب ساحل البحر الأحمر منها جبل يدعى جبل أركويت يرتفع عن سطح البحر ألف متر ، وهو مصيف على ما سمعت . وفي شرقه ومتاخم لحدود الحبشة توجد كسلا وهي منطقة خصبة جداً يرويها نهر القاش وتهطل الأمطار فيها بغزارة ، وهي غزيرة جداً بالمياه الجوفية ، ويزرع فيها الموز بكثرة . أما جنوب السودان فهو غابات كثيفة من الأشجار وخصوصاً شجر المنقا الذي لو استغلته الحكومة بتصدير بعضه إلى البلاد المجاروة وعمل العصير من البعض الآخر وتصديره لعاد على الحكومة بمبالغ طائلة من العملة الصعبة. أما شمال السودان فهو قليل الأمطار بالنسبة إلي الجنوب ولكن الله انعم عليه بثلاثة أنهر الأول نهر النيل الأبيض الذي ينبع من بحيرة تنجانيقا وتغذيه ثلاث أحواض رئيسية هي حوض البحيرات الاستوائية وحوض بحر الغزال وحوض الهضبة الأثيوبية ، والثاني
نهر النيل الأزرق والذي ينبع من بحيرة فكتوريا من الحبشة، والثالث نهر عطبرة ، وهذه الأنهر الثلاث تجتمع  وتشكل نهراً واحداً يسميه المصريون نيل مصر فالنيل الأبيض والنيل الأزرق يجتمعان في الخرطوم عند رأس يسمونه المقرن ويتجهان شمالاً وعلى حافته الغربية ام درمان والشرقية الخرطوم والخرطوم بحري ويفصل بينهم النهرين لذلك تسمى هذه المدن الثلاث بالعاصمة المثلثة.
 كانت حصة السودان قبل اتفاقية السد العالي  لا تزيد على أربع مليارات متر مكعب ، ومع ذلك لم يستهلك السودان هذه الحصة ، و
اقامت الحكومة البريطانية مشروع الجزيرة في وادمدني الذي يروي بالمضخات، وقد اقامه البريطانيون نكاية بمصر بسبب الخلاف الذي حصل بين مصر والشركات البريطانية بخصوص القطن طويل التيلة ، وقد نجح هذا المشروع ولولاه لما كان لدى السودان شيء يعتمد عليه من الناحية الاقتصادية بعد الاستقلال ، فهو الآن عماد ثروة السودان ودخله منه سنوياً خمسة وسبعون مليون جنيه من القطن فقط ، وبعد اتفاقية السد العالي صارت حصة السودان من الاتفاقية ثمانية عشر مليون متر مكعب ، إذ إن ما سيوفره السد مائة مليار أعطي للسودان أربعة عشر ملياراً يضاف أليها الأربعة مليارات السابقة ، وهذه حصة فيها شئ من الاجحاف ، فالواجب أن يكون توزيع المائة مليار حسب عدد السكان ولا نقول على قدر مساحة الأرض إذ ان الفرق شاسع بين مساحة السودان ومساحة مصر .
وقامت حكومة السودان ببناء خزان الرصيص الذي كلف ثلاثين مليون جنيه وافتتح الخزان في عام 1386هجرية من قبل الرئيس إسماعيل الأزهري وقد حضرت افتتاحه ، فهو والحق يقال مشروع عظيم يشكر عليه رجال الثورة ولكن مع الأسف لم يستغل شئ منه حتى الآن لأنه يحتاج إلى ثلاثين مليون جنيه أخرى لشق القنوات وتمهيد الأرض .
أما جغرافية السودان السياسية فهو بلد أفريقي يحده من الشرق البحر الأحمر ومن الشمال مصر ومن الجنوب الشرقي الحبشة ومن الشمال الغربي ليبيا ومن الغرب تشاد ومن الجنوب الغربي الكونغو وأفريقيا الوسطى وكينيا . ويبلغ سكان السودان اثني عشر مليوناً تقريباً ، تسعة ملايين من المسلمين وثلاثة ملايين من المسيحيين وغير المسيحيين . ومن بين المسلمين ما يقارب ستين في المائة من دم عربي أما الآخرون وهم
الجنوبيين
فزنوج.

والمسلمون طوائف متعددة منها طائفة الأنصار وهم اتباع بيت المهدي محمد أحمد الذي قام بحركة ضد الأتراك والمصريين في شعبان 1297هجريه يدعو فيها إلى كتاب الله وسنة رسوله ، وكانت دعوة مباركة خالية من الشرك ، وقد توفي الإمام المهدي – رحمه الله – في رمضان 1302 هجرية.
وفي المدة الأخيرة قامت دعوة أنصار السنة المحمدية التي قام بها رجال مسلمون منهم الشيخ محمد هاشم الهدية رئيس انصار السنة والشيخ مصطفى ناجي .
واخذ الناس ينفرون من الطائفية ولكن البعض بقي على ما كان عليه لأنه لم يجد من يرشده الى الدين الصحيح ولولا دعوة انصار السنة المحمدية لاندفع الشباب الى الالحاد . وعلى وجه العموم فالشعب يتطلع الى دعوة صادقة وسوف يتبعها، والدليل على ذلك هو قبول الكثير منهم لدعوة انصار السنة . أما الجنوبيون سواء كانوا من المسيحيين أو الوثنيين فلديهم ظمأ الى دين يتمشى مع الفطرة ولن يجدوه الا في الدين الاسلامي الذي أخذ الكثيرون يدخلون فيه بدعوة بعض من كرسوا
انفسهم لذلك ، من جملتهم أو في مقدمتهم الشيخ محمد القرشي الذي هو الآن مدرس في الحرم المكي الشريف ، وقد كرس جهوده في دعوة الجنوبيين الى الاسلام واسلم على يده ما يقرب من مئة ألف ولكنه نظراً لكبر سنه وعجزه عن التجوال هناك وقصر ذات يده فضل ان يدرّس في الحرم الشريف . وعلى كل حال فالسودان نقطة انطلاق في داخل افريقيا فمن واجب العرب وفي مقدمتهم المملكة العربية السعودية المبادرة في هذا السبيل .
ليس بخاف على الجميع ما كان يعانيه السودان من تخلف في جميع المجالات بسبب الحكم الثنائي الذي ابتلي به بعد ثورة المهدي ، فقد ركز الاستعمار جهوده على أن يبقي الشعب السوداني في جهله وتخلفه، وقد ساعد الاستعمار في ذلك امران:
الأول : طيبة الشعب السوداني وسلامة نيته.
الثاني : الطائفية التي كان المستعمرون الانكليز وغيرهم يشجعونها من أجل مصالحهم فكانوا كعادتهم يستغلون الطائفية في تنفيذ مأربهم الاستعمارية ، لذا لم يعمدوا الى توعيته في ايه ناحية من نواحي الحياة ، بل حاولوا دائماً ان يبقي افراده ما بين طباخ وسفرجي وبواب على ابواب العمارات وتبقى بلاده المترامية الاطراف والمحتوية على خيرات كثيرة زراعية ومعدنية غير مستثمرة كما هي ليتسني لهم استغلالها اذا نجحوا في ضمه اليهم بطريقة أوباخرى
، وبعد ان نجح السودانيون في نيل الاستقلال نشأ بينهم تطاحن على السلطة ، الأمر الذي اخرهم كثيراً ولم يتمكنوا من اصلاح الأراضي واستغلال حصتهم من مياه النيل على ضآلتها وحاولت الحكومة العسكرية ان تعمل شيء من ذلك ولكنها لم تستطع ان تنجز كل ما تريد عمله ، فالحكومات العسكرية عادة تعوزها الخبرة والتخطيط ، اضافة الى الرشوة والفساد اللذان تفشيا بصورة سيئة جداً، وقد عقدت اتفاقية السد العالي تحت هذه الظروف وكان التعويض الذي اتفق عليه هو خمسة عشر مليون جنيه تدفعها مصر للسودان مقابل تملك اراضي حلفا التي ستغمرها مياه السد العالي والتي تتكون من مزارع ونخيل وبيوت وقد قدر ان مياه النيل ستزداد بعد اكمال السد مائة مليار متر مكعب اعطى للسودان منها اربعة عشر مليارا علاوة على ما كان لهم من قبل والذي يبلغ اربعة عشر مليارات ، وأخذت الحكومة العسكرية السودانية تعد العدة لنقل اهالي حلفا الى خشم القربة الموقع الذي اختارته لسكناهم والذي يسمي الآن حلفا الجديدة وصرفت الحكومة خمسة وسبعون مليون جنيها على ذلك المشروع الأمر الذي جعل الشعب يستاء من هذه السياسة غير الحميدة ، وكان من جراء ذلك ان بعض اهالي حلفا امتنعوا عن الانتقال الى منازلهم الجديدة لانها غير مناسبة من الناحية الصحية ، يضاف الى ذلك ان التقديرات التي قدرت بها مساكنهم ومزارعهم لا تتساوى مع قيمتها الحقيقية ، وكان التذمر يزداد بهذاالسبب وغيره من التصرفات الخاطئة ، وأخذ السخط يتزايد الى ان قامت الحركة الاخيرة في جامعة الخرطوم على اثر ندوة عقدها الطلاب بدرس مشكلة الجنوب والحلول الواجب اتخاذها وقام البوليس بمهاجمتهم وازدادت حركة الطلاب ضد الحكومة التي كانت أحد الأسباب في سقوط الحكم العسكري وقيام حكومة انتقالية تولى اكثر وزاراتها الحزب الشيوعي ، ثم قامت حركة من حزب الأمة وعلى الأصح من طائفة الانصار واسقطت وجاءت بعدها حكومة انتقالية ليست خير من الأولى ، وتحت ضغط جماعة الانصار اجريت الانتخابات وفازت بـ ( 75) صوتاً والحزب الوطني الاتحادي بـ (54) صوتاً وشكلت الحكومة الحاضرة من الحزبين المؤتلفين . ولا زالت تحكم البلاد هذه الحكومة برئاسة محمد أحمد محجوب الذي كان سابقاً محامياً وشاعراً . وقد حصل لهذه الحكومة في المدة الأخيره هزات عنيفة كادت أن تطيح بها لولا أن الخلاف نشب بين قادة المعارضة ، ونتيجة لهذا الخلاف فقد جرى تعديلها .
أما من الناحية المالية فالسودان يعانىمن أزمة مالية شديدة ويحاول أن يحصل على قروض من الخارج كما يحاول أن يحصل من المملكة والكويت رؤوس أموال تستغل في السودان
، وأخشى اذا لم يجدوا من الدولتين من يستغل هذه الامكانات أن يضطروا الىاللجوء الى بعض الدول الشيوعية التي يسرها أن تجد مجالاً في افريقيا عامة والسودان خاصة ، وقد وصل مؤخراً وفد اقتصادي من الكويت للاشراف على المشاريع الانمائية التي ستمولها الكويت في السودان ، كما عقدت الحكومة السودانية مع الحكومة الامريكية اتفاقية على قرض بثمانين مليون دولار.
اما من الناحية الدينية فشعب السودان بفطرته شعب مسلم متدين الا ان الطائفية تستغله ، ولكن الوعي أخذ
ينتشر في صفوف  الشباب خصوصا شباب الانصار والاخوان المسلمين، وكذلك انصار السنة الذين كان لهم في الآونة الاخيرة وزناً بالرغم من أنهم لا يظهرون بمظهر الحزب السياسي بل ان دعوتهم مقتصرة على الدعوة الى التوحيد  وقد زاد نشاطهم عندما ساعدتهم السفارة بتوجيهات جلالة الملك المعظم حيث أمر جلالة الملك ببناء مسجد لهم في الخرطوم تكلف ما يقرب من عشرين ألف جنيه وأخر في أم درمان رصد له عشرون الف جنيه ، يضاف الى ذلك ما تقوم به الجامعة الاسلامية في ام درمان من نشاط اسلامي أدى الى حل الحزب الشيوعي ، وقد تفضل جلالة الملك بزيارة لهذه الجامعة واعجب بما رأى فيها من روح اسلامية عالية وتبرع جلالته لها بثلاثين ألف جنيه استرليني بشيك سلم لهم في وقته،
كما أن جلالته ساهم بمجموعة من الكتب الدينية والمراجع الاسلامية التي سيكون لها اثرها الفعال بإذن الله .
وايضاً هناك الاتجاه الاسلامي في جامعة الخرطوم والذي يقوم بتوجيهه الاخوان المسلمين والذي نأمل أن يكون له أثره الفعال في توجيه الشباب الى الدين فلقد عزموا على اقامة مسجد في الجامعة سيكون له اثره الفعال ايضاً وقد ساهمت حكومة جلالة مولاي في بناء هذا المسجد وتزويده بكميات من الكتب السلفية المفيدة ان شاء الله .

 

الخاتمة

 

لقد كان لزيارة جلالة الملك – رحمه الله ـ الى السودان أثر كبير جداً لدى الشعب السوداني وبعض رجال الحكومة ، فلقد اعجب الجميع بديمقراطية جلالته وتواضعه وحسن مقابلته للافراد والجماعات وصار الجميع يلهجون بالدعاء له والثناء عليه ، رحمه الله ..
وليس هناك أفضل وانبل من ان اختم مذكراتي هذه بذكر افضال وحسنات وأعمال جلالة الملك فيصل المعظم التي بذلها في نشر دين الاسلام الحنيف
، ةفقد سبق أن ذكرت ان جلالته أمر ببناء مسجد في الخرطوم وعندما طلب الإخوان انصار السنة من جلالته ارسال مندوب ينوب عن جلالته عند افتتاح المسجد أمر بأن أقوم بذلك ، ولو أنني تمنيت ان يكون جلالته هنا لأن الرئيس السوداني كان حاضراً في هذه المناسبة ، أما المسجد الأخرالذي تفضل جلالته وأمر لهم بعشرين ألف جنيه لعمارته فقد تم قبيل سفري من الخرطوم متقاعدا ، فأبرقوا لجلالته برقية يطلبون مندوبا ينوب عنه ايضاً لافتتاحه فأمر بان أنوب ، وحيث أن الأزهري هذه المرة كان مشغولاً بمسألة حل الجمعية ومشاكلها فلم يحضر مع انه وعد بأنه سيحضر فأفتتححت المسجد والقيت الكلمة التالية :
                                                         بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي قال في كتابه العزيز ( انما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر ) والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد الذي قال ( من بني لله مسجداً بنى الله له قصراً في الجنة ).
أيها الأخوة الكرام السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد
:
يشرفني أن اتقدم باسم الله ثم باسم جلالة الملك فيصل ملك المملكة العربية السعودية وخادم الحرمين الشريفين نيابة عن جلالته وافتتح هذا المسجد المبارك ومدرسة القرآن والحديث اللذين تفضل جلالته بدفع نفقات انشائهما ابتغاء مرضات الله وحسن القبول اجزل الله له الاجر والثواب على ما قدم ويقدم من خدمات لأخوانه المسلمين ويعيد النصرة لدين الله ورفع راية الاسلام حتى ترفرف خفاقة في جميع الأقطار، كما أسأل المولى أن يوفق المسلمين للعمل بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأسأله أن يشكر للاخوان جماعة انصار السنة المحمدية سعيهم ومجهوداتهم في سبيل الدعوة الى العقيدة السلفية المتمشية مع الكتاب والسنة وأن يكلل اعمالهم بالنجاح والتوفيق كما يشرفني أن أتوجه بالرجاء المخلص الصادق الى جميع طوائف وهيئات المسلمين في هذا البلد المسلم الذي نكن له ولاهله كل محبة وتقدير أن يعتبروا هذا المسجد وهذه المؤسسة لهم جميعاً وليس لهيئة بعينها فإن المساجد لله وان روادها احباب الله فليؤمها الجميع وليرتعوا في رياض الجنة
، أي حلقات العلم التي تعقد فيها انشاء الله ، والله وحده الموفق للخير.
وإني من هذا المنبر اتقدم بأجزل الشكر والتقدير الى الحكومة السودانية لتقديمهم الأرض التي بني عليها والىالإخوان الذين لبوا الدعوة ، ولا يفوتني وأنا في بيت من بيوت الله أن اتقدم بوداع جميع أهل هذا القطر الحبيب الى قلبي ولا سيما انه لم يبقى على سفري الى المملكة معتزلاً العمل سوى بضعة أيام واتمنى من الله ان يرعى هذه الأمة الفاضلة ويوفق القائمين على أمرها حتى يسوسوا أمرها سياسة ترضي الله رب العالمين وهو حسبي ونعم الوكيل . كما أرجو الله أن يوفقنا لأداء رسالة المسجد التي هي رسالة الاسلام فلقد أخرج المسجد العلماء من اصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم والقادة المصلحين .. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ".
ختاماً . هذا هو ما استطعت تسجيله لأن ذاكرتي ضعفت وكثر عندي النسيان وارجو الله جلت قدرته أن يمد في الأجل لاعود وأسجل ما يمكن أن اتذكره وما عساه أن يمر بي مستقبلاً والله المستعان .

                          محمد بن عبد الرحمن العبيكان
                          
الرياض 8/2/1389هجريه