العودة إلى الوطن والا نخراط في السلك الحكومي

 

في سنة 1351هـ وصلتني برقية من الأخ عبد الرحمن العبيكان بما يفيد بوصول والدتي وأخي وابني فهد الى مكة ففرحت بذلك الخبر وتملكني نوع من التعجل في أموري فأبرقت الى عميلنا في بومباي في الهند أن يرسل مالديه ففعل ذلك ، وعندما تسلمت البضاعة بدأت ببيعها وتمكنت من بيع كل البضاعة المتكونة من اللؤلؤ ولم أترك سوى لؤلؤة كبيرة تسمى الحصاة وكنت آمل منها خيراً كثيراً ، وبعد أن تسلمت قيمة المبيعات التي لي ولعمي بدأت بتسديد ما علينا من ديون وطلبات لأهل مصوع وتوجهت من فوري إلى ميناء جدة وكان ذلك في شهر ذي القعدة ، وعند وصولي في آخر يوم من الشهر توجهت الى مكة وكنت محرماً بقصد العمرة ، وكان أخي ناصر وابني فهد في داخل الحرم في ذلك اليوم وكانا يتوقعان حضوري دون ان يعلما تحديداً عن يوم وصولي ، وبينما كنت أطوف لمحني الابن فهد في المطاف ولم يكن يعرفني لأنني تركته صغيراً إلا أن شعوراً داخلياً جعله يسرع الى أخي ناصر ويخبره بوجودي ثم عادا سوياً وتعانقنا طويلاً .. وعندما ذهبت الى حيث تسكن والدتي ورأتني أغمي عليها فانكببت على رأسها ويديها أقبلهما ، وبعد أن أفاقت نظرت الى ثم قالت كالعاتبة : ست سنوات يامحمد !!.. فلم اتمكن من الجواب بالتفصيل وقلت لها: يا أماه هذه إرادة الله تبارك وتعالى .

بقيت في مكة لا أفارق والدتي حتى حان وقت الحج فقمنا بأداء المناسك نلتمس السُنَّة ونطلب من الله القبول ، وبعد انقضاء موسم الحج استأذنت من والدتي في الخروج فصَمّمَت أن لا أفارقها ، وقد شرحت لها حالي وذكرت لها أني مدين بمبالغ كبيرة لأهل الأحساء وغيرهم فلم تقبل هذا العذر وقالت أكتب للشيوخ (تقصد الملك عبد العزيز) واشرح له حالك فانه لا يرجع خائباً من قصدة في حاجة. فرضخت لأمرها ووافقت على رأيها وكتبت خطابا لجلالته ، ثم ذهبت لمقابلة جلالة الملك مع العم محمد بن ثنيان وسلمت عليه  وقدمت له الخطاب ، وفي اليوم الثاني جعلت أنتظر الجواب ، وبينما أنا أتحرى عن مصير الخطاب فإذا برئيس الحجاب إبراهيم بن جميعه يرسل لي أحد رجاله ويطلب مني مقابلته ، فذهبت الى القصر ولم أجده ، وفي تلك الأثناء قابلني أحمد بن مزيد أحد كتبة الملك عبد العزيز فلما أبصرني قال : أين أنت ..؟ الشيوخ سأل عنك ولم يجدك ويقول لك إنني قرأت كتابك وفهمت مضمونه وأرى أن تبقي عندنا لتنفع وتنتفع . فقلت لكاتب الملك : سمعاً وطاعة لأمر جلالته . وسررت بذلك ثم رجعت الى دار أخي وأخبرت والدتي فسرت جداً بالخبر وكان سرورها أكثر لأنني سأكون بجانبها ولا أفارقها ـ رحمها الله ـ ، ومكثت في مكة الى أن انتهى موسم الحج ولم أتلق في تلك الفترة اي جواب فرأيت أن من الأوفق مراجعة جلالته ،  فكتبت خطاباً أعرض فيه بأنني قد أمتثلت لأمرجلالته بالبقاء وإنني احتاج الى مصروف يسد الحاجة ، فأمررحمه الله بأن يصرف لي خمسين ريالاً فرنسياً من المالية ، وسلم لي ابراهيم بن عيدان - أحد كتبة الملك عبدالعزيز- الأمر بيدي ، ولمارأيت انه ربما سيطول الأ مر طلبت من اخي ناصر ووالدتي ان يذهبا الى الرياض ، أما أنا فسأمكث هنا في مكة مع جلالة الملك ، ثم خرج جلالته الى الطائف في طريقه الى نجد فخرجت معه وكنت حريصاً على ملازمته وحضور جلسته التي يكون الغالب فيها الحديث وسماع تلاوة بعض الكتب ، ولما علمت أنه سيغادر الى الرياض ذهبت لتوديعه مع المودعين في حفلة التوديع التي كان يُعدٌّها كل عام وكنت مع عبد الله الجفالي - رحمه الله - وأنتظرت حتى ينتهي الزحام وتقدمت منه وسلمت عليه سلام الوداع ، فتنبه لي ـ رحمة الله عليه ـ وقال لي : لقد أخبرت الابن فيصل يعيّنَك في عمل ، فشكرت جلالته على تلك اللفتة الكريمة ، ولما غادر جلالته إلى الطائف ذهبت الى الأمير فيصل نائب جلالته على الحجاز وذكرت له كلام جلالة الملك فقال :  نعم .. نعم .. قال لي جلالته وسوف نشوف لك عمل . ومضى بعد ذلك أكثر من ستة أشهر وأنا على أحر من الجمر، ثم طلبت من سموه أن يسمح لي بمغادرة الحجاز لالتحق بعائلتي التي سبقتني الى الرياض ، فوافق سموه على ذلك وغادرت الحجاز بصحبة الشيخ عبد العزيز بن معمر ، وكان في طريقه الى نجد وهو في ذلك االوقت أميراً لجدة ، وبعد وصولنا الى الرياض ذهبت للسلام على جلالة الملك عبد العزيز وعلى سمو ولي عهده الأمير سعود بن عبد العزيز. وبعد يومين وبينما أنا أزور صديقي الشيخ عبد العزيز بن معمر فاجأني بقوله : اهنئك بالتوجهات السامية . قلت : خيراً إنشاء الله .. ما هو الخبر ؟ قال : إن ولي العهد قال لي أبلغ محمد بأنه ولدنا ومحسوب علينا . فشكرت عبد العزيز بن معمر على ابلاغ تلك الرسالة وتقدمت الى جلالة الملك عبد العزيز اطلب من جلالته الأمر بصرف مخصص شهري لي فاحالني على سمو ولي العهد فأمر سموه بتخصيص مصاريف عينية لي في كل شهر . وبعد ذلك استأذنت جلالته في السماح لي بالتوجه الى الحجاز فوافق على ذلك وذهبت الى هناك عن طريق حائل وكنت بصحبة سموأمير حائل الأمير عبد العزيز بن مساعد الذي كان في ذلك الوقت عائداً الى حائل بعد زيارته للرياض وطلبت منه أن ارافقه فوافق على ذلك وقد ااحتفى بي ، وصادف في ذلك الوقت أن قدم الى حائل حسن بن عمران ومعه سيارة قدم بها من مكة هدية للأمير عبد العزيزبن مساعد من سمو الأمير فيصل نائب جلالة الملك في الحجاز، وكان الأمير عبدالعزيز في ذلك الوقت قد خرج الى القنص ، وكنت أقيم في حائل في بيت خصصه لي الأمير وهيأ فيه مايهيأ عادة في بيوت الضيافة ، وعندما علم الأخ حسن بن عمران بوجودي جاء إلي واقترح علي أن نذهب الى الأمير في تلك السيارة الجديدة  فوافقت وخرجنا الى الأمير في مضارب خيامه في المقناص في مكان يقال له أبونمر وبتنا عنده ليلة واحدة وكان بصحبتنا في السيارة مدير بيت المال في حائل آنذاك عبد العزيز بن عساكر ، واستأذنت من سموالأمير في السفر الى المدينة فأذن لي وأمر لي بشرهة مائة ريال فرنسي ومشلح مع بعض الكلمات الطيبة منه ـ رحمه الله ـ حيث قال : نود أن تبقى عندنا ولكن لا يوجد لدينا عمل يليق بك . فشكرت سموه وودعته وعدنا الى حائل نحن الثلاثة في نفس السيارة .
وبعد يومين من إقامتي في حائل وجدت سيارة متجهة الى المدينة تخص الأمير عبد العزيز بن مساعد فركبت مع ركابها الى هناك وبعد وصولي الى المدينة حللت ضيفا على عبد العزيز بن ابراهيم فأسكنني في دار الضيافة ، وبعد يومين غادرت المدينة الى مكة في سيارة البريد وذهبت الى الأميرفيصل فأمر لي بسكن ومصاريف عن طريق إبراهيم السميري ، وعندما حان وقت المصيف وخروج الأميرالى الطائف كنت من ضمن من خرج معه وامر الأمير لي ببيت للسكنى في حارة القزاز وسط الطائف  ومصرف من المالية. وبعد أن إستقر بنا المقام في الطائف قررت أن أتزوج وعرضت فكرة الزواج على سمو الأمير فقال : لا بأس هذا شيء طيب . وكلف خادمه عبدالله السميري أن يد فع لي إعانة . وعندما عزمت على الزواج ذهبت إلى رجل ثقة كريم هو الشيخ عبدالله بن حسن بن إبراهيم ال الشيخ قاضي الطائف وطلبت رأيه فيمن يحسن أن أصاهره في هذه البلدة لأنه القاضي فيها وله معرفة بجميع العوائل النجدية المقيمة هناك ، فأشار علي - رحمه الله - بأخت
رشيد العبيلان ، ورأيت أن من المناسب أن أستعين ببعض من أثق به من جماعتنا فعرضت الأمر على عبدالله السميري وعلى صالح بن عبدالواحد( هو اول مندوب لجازان بعد ضمها ) فاظهروا إستحسانا لذلك ، ولما علما جديتي في الموضوع قال أحدهما وهو إبن عبدالواحد ، وكان رجلا فكهاً : أنا سأقوم بدور القرواني ، وهو رجل معروف عندنا في الرياض بخطبته للنساء ، وكان ابن عبدالواحد يعني ما يقول لأنه عاش مدة طويلة في حائل وله معرفة باهلها ، ورشيد العبيلان من حائل ، فكلفته -رحمه الله - بتلك المهمة وذهب إلى رشيد وطلب منه أن يوافق على زواج أخته مني فتردد رشيد في أول الأمر وإعتذر بكونها صغيرة السن فقال إبن عبدالواحد : فلتذهب والدتها معها. فوافق رشيد وأردف قائلا : لن يطلب أختي من هو خير من محمد .. وأخذت بالإستعداد للزواج وأهيء نفسي لذلك فدفعت (السوق) إلى رشيد بواسطة مندوب عني يدعى أبو راشد الهايف - رحمه الله - . وتم الزواج وكان زواجاً موفقاً بحمد الله ورزقت منها كل أولادي من البنين والبنات ماعدى ابني الأكبر فهد الذي توفت والدته قبل ذلك ، وأرجو الله تعالى أن يبارك فيهم جميعاً وأن يلهمهم رشدهم ويوفقهم لما فيه خير دينهم ودنياهم أنه مجيب الدعاء .

 

              اول تكليف لي بالعمل


بعد الزواج بشهر تقريباً كلفت من قبل الأمير فيصل بالنزول إلى جدة لأمر لا أعرف ما هو ، إلا أنني عرفت بعدذلك أنه يخص توقيع إتفاقية تجارية بيني وبين المندوب الإيطالي (السير الكوليري أودلو) وتتضمن تلك الإتفاقية إستعدادي لبيع إثني عشر ألف جمل لهم ، وكانت وزارة المالية في المملكة قد اتفقت معهم بواسطة سليمان السكيت على أن نقدم لهم الجمال المطلوبة بسبعة جنيهات ذهباً ولكن الأمير فيصل عارض وإقترح أن أعقد أنا معهم الاتفاق بواسطة وزارة الخارجية بصفتي تاجرا ، فذهبت إلى جدة وقابلت حمد السليمان وكيل وزارة المالية فقال لي : إتصل بالشيخ يوسف ياسين نائب وزير الخارجية وأعمل بما أمرك به الأمير. وأمر أن ابقى في وزارة المالية بجدة وان يقدم لي كل ما يلزم . واتصلت بالشيخ يوسف وطلب مني أن احضر الى الخارجية في اليوم الثاني، وعندما حضرت وجدت المندوب الإيطالي ، واتفقنا على أن نقدم لهم اثني عشر ألف جمل بسعر  خمسة عشر جنيها ذهبا للجمل، وقد نصت إحدى شروط الاتفاق أن يكون الإيطاليون ملزمين بقبول ذلك العدد ،أما نحن فلسنا ملزمين بتقديم إلا ماهو في حدود إمكانياتنا . ودفع لي عشرة آلاف جنية ذهبا كدفعة أولى ، واتجهت بعد ذلك إلى الطائف وعرضت الأمر علي الأمير فيصل وقال (اعطني نسخة من الاتفاقية وأما الذهب فتوجه به إلى الرياض وسلمه الى جلالة الملك واكتم الأمر ). ولكن احد رجال الأمير علم بالإتفاقية من الديوان فكتب الى أخيه في الرياض بان محمد متوجه ليشتري جمال وسيرتفع سعرها فاشتر الأن .

توجهت إلى الرياض في سيارة صغيرة ومعي الذهب، وعندما وصلت وسلمت على جلالة الملك في البديعة رحب بي وقال : قم تغدا مع الجماعة . فلما انتهينا من تناول طعام الغداء وإذا بالملك واقف على الدرج وقال : مليت بطنك وأنا باروح املأ بطني - قالها ضاحكآ - ثم اردف قائلا : كم احضرت من الذهب ؟ قلت : عشرة آلاف ، قال : سلمها للطبيشي ـ يقصد عبد الرحمن الطبيشي وزيره الخاص ـ ولا أحد يعلم بمهمتك ولا أسفل بطنك . فذهبت الى الطبيشي وسلمته الذهب وذهبت الى بيت الأخ عبد العزيز بن ثنيان ونزلت عنده ضيفاً وسألني عن مهمتي فاجبته بانها مهمة خاصة لجلالة الملك وانه امرني بأن لااخبراحد . فسكت. وفي أخر شهر شعبان وصل الأمير فيصل وذهبت لزيارته فقال لي : أفشيت السر . قلت له : لم أفشه . فقال : بعض الجماعة قالوا لي عن مهمتك ، قلت: الذي أخشاه حقيقة هو حاجبك الذي كتب لأخيه بذلك .
وبقيت في الرياض على أحر من الجمر مدة ثلاثة أشهر ولم أعلم ماهو الغرض من بقائي، وأتضح لي أخيراً أن ايطاليا عدلت عن شراء الجمال وطلبوا من الحكومة الغاء الأتفاقية ، وذلك بواسطة فؤاد حمزه، فوافقت الحكومة على شرط أن يستلم الايطاليون جمالاً مقابل ما دفعوه مقدمآ من نقود ، وفعلاً أرسلت لهم كمية من الجمال عن طريق ميناء ينبع .
وفي أخر رمضان 1454 هجرية عزم الأمير على التوجه الى مكة وكنت في أشد الشوق لزيارة مكة ورؤية الأهل, خاصة وانني كنت قريب العهد بالزواج , فكلمت الأمير فقال : كلم جلالة الملك . فكتبت كتاباً لجلالتة اعلمه فيه بعدم وجود أي عمل لي وبما أن الأمير متوجه الى مكة فارجو الاذن لي بالتوجه معه ، وقدمت الكتاب بواسطة عبد الله بن عثمان فجائني الجواب بالموافقة وأعطاني شرهة  سبعين ريالاً ومشلحاً، وفهمت بعد ذلك أنه حصل بحث في موضوعي وانه تقرر أن أعين أميراً على منطقة بيشة، ثم توجهنا مع الأمير الى مكة فوصلنا في أخر الشهر فوجدت عائلتي قد نزلت من الطائف ، وبعد العيد تقدمت للأمير راجياً الأمربتزويدي بفرش لمنزلي لعدم وجود فرش صالح به ـ وقد رأه الأميرعندما زارني في عطلة العيد وشرب القهوه عندي ـ فوعدني خيرآ .



           تعييني أميراً لمنطقة بيشة


وبينما كنت في مكة وصلني
كتاب تعييني أميراً لمنطقة بيشة  وأخذت في التهيؤ للسفر، وكان رشيدالعبيلان خال ابنائي قد ترك عمله كمديراً لشرطة الحرم من مدة وكانت حالته المادية صعبة لأنه رجل كريم ونزيه وقد لحقه الدين ، فقلت له : قد يكون من الأفضل أن تذهب معي الى بيشة وتعمل معي . فقال : ما عندي مانع ولكن يجب أن تطلب ذلك من سمو الأمير. فكلمت الأمير بذلك وقلت له : رشيد خويكم وليس عنده أي عمل لو تكرمتم وعينتوه كاتباً معي . فقال الأمير بعض مداعباته المعهودة أولاً ووافق على طلبي وطلب من ابن غشيان أن يبلغه بالتعيين ، وفعلا تم إبلاغ رشيد بالأمر وهيأنا أنفسنا ومعنا الشيخ عبد الله بن حسن بن إبراهيم آل الشيخ ، ولما وصلنا (عشيرة ) وإذا بسليمان الرواف يلحق بنا ومعه كتاب من ابن سليمان يقول فيه أنه قد تم تعيينه مديرا للمالية ، وبتنا تلك الليلة في عشيرة ، وفي الصباح توجهنا إلى الخرمة فوصلناها بعد العصر ووجدنا واديها تملؤه المياه الجارفة وكان من الصعب علي السيارة اجتيازه . وبقينا في الخرمة سبعة أيام والمياه تزداد في الوادي كل يوم ، وفي اليوم الثامن قررنا اجتيازه واخترنا منطقة صلبة ، وسرنا بالسيارات إلا أنها تعطلت في منتصف الوادي وجاء أهل البلد لمساعدتنا ، وسَحَبنا السيارات بالحبال.
وقبل أن استمر في كتابة الرحلة أود أن أذكر أنه مهما نسيت فلن أنسى تلك الفجريات التي كنت أصلي فيها خلف فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن داود ـ رحمه الله رحمة الابرار ـ فلقد كان يحصل عنده تجليات عندما كان يبتدئ بالقراءة المرتلة بذلك الصوت الرخيم الذي يصل الى سويداء قلب المصلي خلفه ، وكم كانت خسارتي وحزني عندما علمت بوفاته بعد تلك الأيام بشهرين تقريباً على أثر الوباء الذي أصاب الخرمة ورنية وتربة والذي بسببه توفي أمير رنية حسن بن دغيثر وقاضي تربة الشيخ ناصر بن جار الله وعدد كبير من أهالي تلك البلاد ، رحمهم الله جميعآ 0
اعود فأ قول: انه بعد أن قطعنا الوادي واصلنا السير الى (رنية) ومررنا بالأمير حسن بن دغيثر وتناولنا الغداء عنده ، وبعد الغداء واصلنا السفر ، ولما أردنا أن نقطع الوادي غرزت بعض السيارات في الرمال ، واستفزعنا بالأمير وأخوياه وأخرجنا السيارات من الرمال، وكان الوقت عصراً فمشينا حوالي نصف ساعة ثم نزلنا وبتنا في قرية من قري بيشة تسمى النفيلة وكان معنا محمد بن ملوح من أهل القويعية ومن جماعة أمير بيشة فأخذته الحمية وانطلق من عندنا ليعلمه بأننا سنصل في الصباح وذلك لكي يحسب حساب النقل من القصر، لأنه خشي أن نكون مثل غيرنا من الأمراء الذين عندما يصلوا الى قصر الأمير السابق يضايقونه ولا يتركون له المجال لينقل أي شئ من القصر ، وبعد أن اصبحنا ركبنا وتركنا العائلة في النفيلة ، ولما وصلنا القصر وجدنا الأمير على الباب في استقبالنا فنزلنا وتسالمنا ثم شربنا القهوة والشاي ، وبعد ذلك قال الأمير : القصر خالي وجاهز ، خلو العائلة تدخل 0 قلت : لا تضايق نفسك لأن عائلتي في النفيلة الى أن تنقلوا عفشكم . فقال : لما علمنا أمس بوصولكم النفيلة نقلنا كل عفشنا في الليل . فقلت له: لقداخطأت واشغلت نفسك وعائلتك فنحن واياكم إخوان . فشكر لنا ذلك . ثم أدخلنا العائلة وأجرينا الدور والتسليم وسافر الأمير السابق بالسيارات التي أقلتنا . وبقينا نباشر مهمة الأمارة ما يقرب ثلاث سنوات .

                                                       
 تنحيتي من بيشه


كانت العادة أن يحمي الأمير محلاً يقال له المتن لسوافي البلاد فحميناه على العادة ، وكانت هناك جماعة من قبيلة قحطان التابعين لإمارة أبها يتجاوزون على المكان المذكور ويرعون مواشيهم فيه فكنا نرسل لهم رجالاً لكي يخرجونهم من الحمى ، وفي بعض الأوقات كانت تحصل تعديات على الرجال الذين كنا نبعثهم ، وصادف أن حصل بين الرجال الذين أرسلناهم وبين اتباع ابن ملهي من قبيلته قحطان مشاكسة وحاول رجالنا الامساك بهم ففروا وتركوا ابلهم فساقها رجالنا وجاؤا بها الى القصر فحجزنا الإبل حتى يعودوا لأخذها ولكي نتمكن من تأديبهم ، إلا أنهم لم يحضروا ووسطوا ناصر بن سلطان من بني سلول وتشفع فيهم فأخلينا إبلهم وأخذنا منهم جملاً وناقة وخمسين ريالاً فرنسياً بسبب تعديهم على رجال الحكومة وأدخلنا الجميع في المالية فذهب هؤلاء الى أمير أبها الأمير تركي السديري فأبرق الى جلالة الملك عبد العزيز ـ رحمه الله ـ يخبره بما حدث ، فأبرق جلالة الملك عبد العزيز برقية شفرة بواسطة الأمير تركي الذي أخبرني بوصول برقية جلالة الملك وقال : سلم حالا ما أخذته من ابن ملهي الى رجالنا. فقرأت الشفرة وإذا جلالته يقول : سلموا لابن ملهي الذي أخذتوه منه … ومن أمركم تحمون ؟ مالكم حمي . فلما رأيت المسألة فيها تحريف للحقيقة كتبت الى جلالته برقية جواباً على برقيته وبعثتهاالى الاميرتركي ليرسلها، وكتبت له : تصلك برقية لجلالة مولاي ارجو ارسالها أمابخصوص تسليم ما أخذناه من ابن ملهي لرجالكم فيا أخي لو كتبت لنا قبل ان ترفع لجلالة مولاي حتى نبين لك الحقيقه ، فابن ملهي اخطأ على رجال الحكومة ولايمكن أن نسلمه ماأخذناه قبل ان يعرف جلالته الحقيقه . وكان نص البرقية التي بعثتها للملك هو ما يلي ( جلالة مولاي .. من قبل الحمى ما حميته لإ بلي ولا لغنمي وإنما حميته لمعاويد أهل البلاد جريا على سنة أسلافي عبد الرحمن بن ثنيان وعبد الله بن معمر وسليمان بن جبرين ، والذي أخذناه من ابن ملهي أخذناه لأنه تعدى على خدامكم وقد سلمنا الجمل والناقة وثلاثين ريال الى المالية وأعطينا عشرين ريالا منها خدامكم مقابل أتعابهم وما وقع عليهم ، وإذا تأمرون بان نرجعها من المالية ونسلمها لصاحبها ، أمركم ).

 فابرق جلالة الملك يقول : ما دام الأمر كذلك فلا بأس.

وهناك حادثة أخرى وقعت أثناء إمارتي , وهي أن  مدير المالية عرض عليَّ اقتراحاً بان يكون في بيشة رسوم على الأسواق فعارضته ولكنه لم يلتفت الى رأيي ورفع الإقتراح الى ابن سليمان ولم أشعر إلا والتبليغ يصل إليَّ لتنفيذه ، وعندما شرع  في تنفيذ القرار وعين موظفين ثار الأهالي وجاؤوا إلي وقالوا : هذه بدعة لم نعهدها من حكومتنا. فقلت : هذا شئ لم اسعى به وقد وردني الأمر بتنفيذه وما علي إلاالتنفيذ . قالوا : نرفع لجلالة الملك نشتكي إليه. قلت : لاأحول بينكم وبين جلالته . فكتبوا كتاباً لجلالته فلما قرأه غضب من لهجة الكتاب وأرسل لجنة مكونة من الشريف شرف رضا ومحمد علي الميمان والسيد نور للتحقيق ، وبدأت اللجنة تحقيقها مع الذين كتبوا الكتاب ومعي أيضاً فذكرت لهم المسألة كما هي . وبَقِيَت اللجنة اسبوعاً وتوجهت بعد ذلك الى أبها في مهمة أخرى وأرسَلتُ بدوري برقية مع اللجنة الى جلالة الملك أذكر فيها بأن اللجنة قد إنتهت من التحقيق وتوجهت الى أبها، والتمستُ من اللجنة أن ترسل البرقية من أبها لأنه لم يكن في بيشه لاسلكي في ذلك الوقت ، وجاءني الجواب من جلالته يقول : ( كل هذا بايعاز منك) .ولااعلم ماذكرته اللجنة لجلالته . وفوجئت بالخبر يصلني مع بعض القادمين من مكة بأن الأمر صدر بتعيين صالح بن دخيل أميراً بديلا لي ، وبعد أيام وإذا بصالح يصل ومعه أمراً بتعيينه وتنحيتي ، وهذا نص الأمر :
الرقم 1180
التاريخ 26/3/1357
حضرة المكرم محمد بن عبيكان
حيث قد صدرت الارادة السامية الحكومية برقيا برقم 3040 وتاريخ 24/3/1357 هجرية بتعيين صالح الدخيل أميرا لبيشة بدلا عنكم فعليه يقتضي اعتماد تسليم المذكور الإمارة لمباشرة أعمالها مع إجراء الدور والتسليم بينكم وبينه في موجودات الإمارة حسب الاصول ولذا حرر،،
                                               فيصل
                                        نائب جلالة الملك

               
                            إقامتي في الطائف


توجهت الى الطائف بعد تنحيتي من إمارة البيشة، ولما وصلت إليها وسلمت على الأمير أمرلي ببيت ومصاريف على حمد السليمان، وكانت حالتي المادية ضعيفة جدا في ذلك الوقت لأنني لم أحصل على شيء مدة إمارتي في بيشة، وذلك لأسباب عديدة منها أن راتبي ومخصصاتي للضيافة لم تتجاوز ثمانمائة ريال فرنسي، وبيشة ملتقى طرق للقوافل من نجد والسيارات من الحجاز، ففي بعض الأيام كنا نذبح ثلاث واربع ذبائح ، ويوم الأربعاء كان يوم السوق عند الإمارة وبعدعصرذلك اليوم نستضيف جميع من فيه عندنا، كما ان السيارات التي تقطع الطرق بين أبها ونجران كانت لابد أن تمر علينا للضيافة خصوصا الأمراء ، فقد مرعلينا تركي السديري – رحمه الله - مرتين وكان معه عوائل واخوياء باعداد كبيرة، واستضفنا ايضا تركي بن ماضي- رحمه الله - وهو في طريقه الى نجران ، وأمراء نجران السابقين. كل هذه الأسباب مجتمعة جعلتني اخرج من بيشة بخفي حنين ، وبقيت بين مكة والطائف في ضيق من العيش ، وكان الأمير فيصل في بعض الأحيان يأمرني بالذهاب للتفتيش والى جباية زكاة المواشي ، ولم يكن من وراء هذه الأعمال فائدة مادية.
وفي سنة 1372هجرية كتبت للأمير فيصل طالبا زيادة مخصصاتي ومساواتي بعبدالله إبن خثلان، وكان ابن خثلان قد تكلم مع ابن سليمان وأمرله بمخصصات شهرية مقدارها ألف ومائتي ريال وبيت في الطائف وبيت في مكه ، وأثناء قيام الأمير عبدالله الفيصل بالنيابة عن والده ، كان في الديوان رجل طيب هو رشيد فارسي عرض طلبي على الأمير عبدالله وقال له: هذا رجل والدكم وصديقك . فأمر الأمير - حفظه الله - أن يعطى لي ما يعطى لعبدالله بن خثلان . وتحسنت حالتي ، خصوصاً عندما حضر جلالة الملك عبدالعزيز إلى الطائف للصيف بعد أن أحس بالمرض سنة 1373هجرية وحضر معه عدد كبير من العائلة المالكة ، وكانت المالية قد استأجرت لي بيتا جديداً باربعة الاف ريال فجاءني أحد الأمراء واستأجره مني بواسطة مندوب من المالية بخمسة عشر ألف ريال ، لأن البيوت ارتفع أجارها بمناسبة مجيء جلالة الملك والعوائل معه .


         
 السفر لتفقد البعثات السعودية


في ربيع الأول من سنة1373 هجرية صدر أمر من ولي العهد الأمير سعود بتشكيل لجنة للسفر إلى مصر ولبنان وسوريا للإشراف على البعثات هناك وتفقد احوالهم ، وقد وقع الإختيار عليَّ وعلى سليمان الصنيع والشيخ ابراهيم الشورى ومحمد بن حريب وأمين بن عقيل أعضاء ، و
الشيخ محمد بن حركان رئيساً . وكان أحد أسباب تشكيل هذه اللجنة هو وصول الأخبار بأن أخلاق وأعمال واتجاهات بعض طلاب البعثات كانت غير مرضية وأن بعضهم كان يُخشى عليهم من بعض الأعمال التي قد تجرفهم نحو المبادئ الهدامة ، وذهبنا إلى مصر ووصلناها في ربيع الأول وباشرنا أعمالنا واتصلنا بالجهات المسئولة في القاهرة وبالرئيس محمد نجيب رحمه الله ، وكان ولي العهد قد ارسل قبلنا سعيد كردي ومعه رسالة خاصة الى فخامة الرئيس بهذا الصدد ، فلما قابلناه وجدنا منه كل تجاوب ودعانا الى مشاهدة الفلم الذي أخذ له عندما حج فلبينا الدعوة وشاهدناه جميعا في صالة مجلس الوزراء ، وكانوا قبل ذلك قدحجزوا لنا وله لمشاهدته في احد دور السينما إلا انه قال : الجماعة مشائخ ولا يجوز ان يذهبوا الى السينما العامة ، أحضروا الفلم هنا. وأقام لنا وزير المعارف حفل غداء في فندق سميراميس، وكان الرئيس يود ان يحضر الحفل معنا ولكنه ذهب الى الإسكندرية وتاخرهناك فأتصل واعتذر.
باشرنا عملنا وزرنا جميع المدارس التي تضم بين صفوفها طلبة سعوديين ، ودرسنا احوالهم عن كثب فوجدناهم متذمرين ولكننا لم نجد عندهم انحراف ولله الحمد كما قيل لنا في السابق ، إلا انه يخشى عليهم لأن الوضع غير مرض بالنسبة للتعليم ، لأسباب منها : أن الجو هناك جو انطلاق لايساعد على التعليم ، والمدرسين معظمهم تخرجوا من مدارس اوروبيه ، كذلك بعض الطلبه يدرسون في مدارس اجنبيه ، والطلبة العسكريون يخشى عليهم من الاندفاع خلف تيار الثورة لأن المدرسين يبثون فيهم هذه الروح . وقد لمست ذلك عندما زرنا المدارس العسكريه كمدرسة الصيانه والكليه العسكريه وكلية مطار بلبيس الأمر الذي دفعني الى معارضة مسودة التقرير الذي وضعه السيد امين بن عقيل ووافق عليه الشيخ محمدالحركان وسليمان الصنيع وابن حريب وذلك بعد ذهابنا الى الإسكندريه .
وبعد ان انتهينا من دراسة احوال البعثات في القاهرة درساً وافياً اتجهنا بالسيارات الى الإسكندرية عبر الطريق الصحراوي، وعندما وصلنا الى مشارف الأسكندرية قبيل المغرب فإذا بالمذيع من راديو صوت العرب يقول : ( فجع العالم العربي اليوم بعلم من أعلام العروبة ، فقد اذاعت اذاعة مكة المكرمة صباح اليوم خبر وفاة جلالة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل ال سعود ) . فذهلنا جميعا وحزننا حزناً شديداً، وإن كنا متوقعين ذلك لأن الأخبار كانت تفيد بأن المرض اشتد على جلالته، وقد كنت اكثرالجماعة حزناً عليه ـ رحمه الله ـ لأنني كنت أعرفه منذ الصغر وعلاقتي به جيده ولم ارى منه إلا كل مايسعدني ، فعندما كنت اميراً في بيشة لم اسمع منه اي كلمة جافة عند غضبه ، وبعد انفصالي من الأماره كنت إذا ذهبت إلى السلام عليه يحتفي بي ويسألني عن احوالي بلطفه المعهود .. رحمه الله .
ولما وصلنا الى الاسكندرية نزلنا في فندق سيسل وقابلنا طلعة ناظر القنصل السعودي فأكرمنا، وفي اليوم الثاني دعانا قائم مقام الإسكندرية لأداء صلاة الغائب على الملك في مسجد ابو العباس فذهبنا وأدينا الصلاه وتقبلنا العزاء من الحضور.
وفي اليوم التالي باشرنا اعمالنا في تفقد المدارس التي بها طلبة سعوديين ، ولما عدنا الى القاهرة قمنا بأعداد التقرير عن وضع الطلبة في مصر ، فوضع السيد عقيل مسودة التقرير الذي اشرت اليه سابقاً ووافق عليه الجميع ، ولما عرضوه علي عارضت وقلت لايمكن ان اوافق على هذا، خصوصاً الفقرة التي ذكر فيها أن عدد البعثه العسكريه هذا العام (120) ونرجوا أن تكون في العام القادم (500) وأن يزداد العدد كل عام ، فلما وقفت موقفي هذا ثار الصنيع وقال قصدك المخالفة ولكنني لم أعبأ به وصممت على موقفي ، وكان الشيخ الحركان رجلاً عاقلاً يقدر الأمور فلزم الحياد ، ولم يكن الشيخ ابراهيم الشورى حاضراً ، ولماحضر في اليوم التالي عرض عليه الشيخ الحركان الموضوع وقال له إن محمد عارض على بعض النقاط خصوصاً هذه النقطه ، وقلت للشيخ ابراهيم ـ ولم يكن معنا سوى الشيخ ابن حركان ـ : أسالك بالله هل هذا نصح؟ فاجاب : أنه لم يكن نصحاً . فقال ابن حركان : يا شيخ ابراهيم اكتب مسودة غير هذه ، ولطف الموضوع بين الأعضاء وما يعتقد به محمد غير جيد احذفه والشيء الذي لم يكن فيه ضرر بالغ ضعه لاننا ما نحب أن يكون بيننا خلاف . فكتب الشيخ ابراهيم مسودة وعمل كما قال الشيخ الحركان ، فقلت هذا شيء يمكنني أن أوافق عليه معكم وأوقع ولكنني سأعمل تقريرا خاصا اذكر فيه وجهة نظري في جميع المسائل فقال الشيخ ابراهيم والشيخ الحركان: لابأس بذلك .
بعد ذلك توجهنا إلى لبنان وتفقدنا أحوال الطلاب هناك ولم تكن أحوالهم بأحسن من أحوال البعثات التي في مصر ، ثم زرنا دمشق وكانت البعثة هناك أحسن نوعاًما وإن كان عدد الطلبة قليلاً لأن عدد الطلبة الذين كانوا في مصر من البنين والبنات والعسكريين يفوق الثلاثمائة ، وفي لبنان كان العدد مائتين ، وفي دمشق قدر العدد بحوالي 150 تقريباً وقد اتفقنا جميعاًعلى إن إدخال الطلاب السعوديين الى المدارس الأجنبية عمل لا يقره العقل ولا الدين خصوصاً الصغار منهم .. على إختلاف في الآراء .
ومن دمشق عدنا إلى المملكة وكانت عودتنا في يوم لم أذكر تاريخه على طائرة داكوتا، فعند بداية الرحلة من دمشق كان الجو حسن وسارت سيرا جميلا، ولما بلغنا قرب مدائن صالح قابلتنا ريح جنوبية قوية جدا واخذت الطائرة تلعب بنا واضيئت اشارة الخطر، وفي هذه الأثناء كان قائد الطائرة في دورة المياه وترك القيادة لمساعده وعندما اختل توازن الطائرة وهوت بنا هوية فظيعة ركض الملاح وهو لم يربط بنطلونه بعد ولكن الله سلم. وكان معي لما هوت الطائرة ميزان قياس الإرتفاع ( البارومتر ) فوجدت انهاقد هوت إلى أسفل بمسافة ألف وخمس مائة قدم .
طلبنا أن تنتظرنا الطائرة في المدينة المنورة حتى نصلي في المسجد فقال الكابتن : لا أستطيع إلا بأمر من ابراهيم الطاسان . فأبرقنا له فوافق على أن تنتظر الطائرة لمدة ساعة فنزلنا في المدينة وذهبنا للمسجد وصلينا الظهر وتغدينا عند ارحام الشيخ أبن حركان، وكان الظن أن الجو سيكون أحسن فلما ركبنا وأقلعت الطائرة كانت الحالة أتعس من قبل ، وبقينا في حالة سيئة ووصلنا متأخرين حوالي أربعين دقيقة فحمدنا الله على السلامة ، وبعد وصولنا قدمنا تقريرنا وعملت أنا تقريراً خاصاً بينت فيه مضار الابتعاث الى تلك البلاد وما ينشأ عن ذلك وطلبت أن تعمم المدارس وأن يفتح في الطائف كلية على غرار كلية فيكتوريا في مصر، وأن ينقل الطلبة السعوديون الى تلك الكلية المقترحة من الذين يدرسون في مصر.

وبعد إطلاع بعض الجماعة ، من الذين لم يدركوا الخطر الذي قد يؤثر على الطلبة السعوديين في الخارج ، على تقريري ، وصفوني بأنني رجعي .
في السنة الثانية تلقيت أمراً من وزير المعارف بالنيابة ، الأمير سلطان بن عبدالعزيز ، بناء على أمرجلالة الملك سعود بالسفر الى لبنان ودمشق ومصر مع الشيخ الشورى والصنيع لنقوم بإخراج التلاميذ الذين الحقوا بمدارس تبشيرية ، وكانت الدراسة قد بدأت منذ ثلاثة أشهر ، فراجعت سمو الأمير سلطان وأخبرته إن المدارس قد بدأت من ثلاثة أشهر وإخراج التلا ميذ في هذا الوقت سيضيع عليهم سنة كاملة ، كما أن تخصيص المدارس التبشرية غيرمناسب فالضرر الذي في المدارس التبشيرية موجود في العلمانية الا ان العلمانية تسعى لاخراج الطلبة عن دينهم ليصبحوا ملحدين ، فعلى هذا الأساس تكون التبشيرية أقل ضرراً لأنها تبين لهم أن هناك ديناً يجب أن يعتنقوه ، في حين أن العلمانية تدخل في أذهان التلاميذ بان الأديان كلها خرافة ، لذلك من الأفضل أن يخرجوا من جميع المدارس الأجنبية جملة واحدة أو يتركوا ، لأن هذا شيء لافائدة من ورائه ، فقال الأمير سلطان: راجع الأمير فيصل . وقلت للأمير فيصل ما قلتة للامير سلطان فقال : هذا أمر الملك ، فقلت : اذا يرى سموكم مراجعته في ذلك ، فقال : أنت راجعه . فأبرقت لجلالة الملك ، وكان آنذاك في جيزان ، ولم أذكرله شيئا سوي أنني اعتذرت عن السفر وقلت : أرجو أن تعفوني لأني مشغول بمسائل عائلية . فجائتني منه برقية بوا سطة وزير المعارف يقول : أنت مافيك شهامة تعتذر عن خدمة حكومتك … توجه حالا . فاضطررت أن أسافر وطلبت من الأمير سلطان مسألتين أولا : أن يكون إبراهيم الشورى رئيسا بدلا عني ، ثانيا: أن يذهب معي الإبن عبد العزيز بن عبد الله بن سالم ، فوافق علي ذلك حفظه الله وعلى كل ما طلبته ، لأنه وجدني متأثراً من جواب جلالة الملك وقال لي الأمير : ان جلالته ان غضب فانه لا يذهب بعيداً ويرجع في الحال .
وسافرنا إلى بيروت صباح يوم 15 /3/1374 هجرية ، فوصلنا قبل الظهر ، وكان االشيخ ابراهيم الشورى في مصر فأبرقناله ليحضر، وبعد ثلاثة أيام وصل وباشرنا أعمالنا ولكن بتبصر ، أخذنا أولاً نتحقق من المدارس التبشيرية وبعد ذلك أرسلنا إلى أولياء التلاميذ وطلبنا منهم أن يعطونا تعهدات بأنهم سينقلون أولادهم إلى المدارس الإسلامية في نهاية السنة الدراسية ، وكان هذا رأيي أنا والشيخ إبراهيم الشورى ، أما الشيخ سليمان الصنيع ـ رحمه الله ـ فكان رأيه أن نذهب إلى المدارس التي نتأكد أنها لأغراض تبشيرية ونسحب الطلبة السعوديين منها ، فعارضنا علي ذلك القرار ، وصارت بيننا وبينه مشادة أدت إلى رفع الأمر إلى وزير المعارف.
وبعد أن انتهينا من بيروت ذهبنا إلى دمشق ، وكان الشيخ إبراهيم الشورى مصاباً بمرض في الكبد فأثرت عليه حركة السيارة وأشتد عليه المرض الى حد أنه اشرف على الهلاك، ولكن الله سلم وتماثل للشفاء ، وانهينا أعمالنا هناك ، وكان لدينا أمراً أن نشرك السفير عبد العزيز بن زيد ـ رحمه الله ـ معنا في العمل، فوضعنا تقريراً ووقعنا عليه جميعاً ورفعناه الى الجهة المسئولة ، ثم توجهنا الى بيروت ثم الى القاهرة وبدأنا في الإجراءات الأولية ، وفي تلك الأثناء وصل الأمير فيصل وذهبنا الى المطار لاستقباله ، ولما حضر الرئيس جمال عبد الناصر تقدم الإخوان للسلام عليه أما أنا فلم أسلم عليه ، فقال الصنيع : لماذا لم تسلم علي عبد الناصر ؟ قلت : والله لا أصافح يداً تلوثت بدم الأخوان المسلمين خصوصا صديقي عبد القادر عوده والشيخ محمد فرغلي.

وفي اليوم الثاني ذهبت الى مكان اقامة الأمير فيصل ، في فندق ميناهاوس ، ولما دخلت وسلمت عليه قال : ماذا عملتم؟.فبينت له ماقمنا به. فقال: أحسنتم.. أنهوا عملكم وتوجهوا الى الوطن ، فأنهينا عملنا حسب رغبة سموالأمير فيصل ووضعنا تقريراً مشتركاً ورفعناه الى وزير المعرف ، ووضعت أنا بدوري تقريراً خاصاً تطرقت فيه الى أمور هامة من جملتها ضرورة فتح مدارس للبنات في المملكه ، ورفعت تقريري الى جلالة الملك لما فيه من مواضيع خاصة ، وقد بلغني أن التقرير أحيل الى سماحة المفتي وأنه عارض عليه ، فتألمت جدا لهذه المعارضة ، وعندما حضرسماحته الى مكة زرته وفاتحته في الموضوع فقال رحمه الله : سأعارضه بكل ما أوتيت من قوة . قلت : وما هو السبب ، قال: أخشى أن ينفتح الباب على مصراعيه وأتحمل المسئولية .. فقلت الله يحيينا وأياكم حياة طيبة ، بعدكم قد ينفتح الباب على مصراعيه ايضاً وتتحمل انت المسئولية وأنما الأحسن أن تفتح المدارس بوجودك وتحتضن المشروع وتجعل له برنامجا لن يتغير بعدكم وأنتم الآن سمحتم بماهو أخطر من فتح المدارس . فقال : ما هو؟ قلت : السماح بإدخال المربيات الى البلاد واؤكد لسماحتكم أن تسعين بالمائة منهن لم يحسن إختيارهن وهذا ضرر على البلاد . فعند ذلك اقتنع على ما يبدولي بوجهة نظري وقال : لو أن احداً من الأخوان يفتح مدارس خاصة فلا باس بهذا. قلت : ان المدارس الخاصة ستكون شراً ومن الأفضل أن تفتح مدارس حكومية ويشرف سماحتكم عليها وتراقبوها . وأخيرا فتحت المدارس والحمد لله وأرجو الله أن يوفق القائمين على هذه المدارس بأن يوجهوها الى الوجهة الصالحة .
ولا يفوتني في هذه المناسبة أن أذكر زميلي الشاب النزيه عبد العزيز السالم ( أمين عام مجلس الوزراء ) بالشكر على ما اتصف به من خلق فاضل وديانة وحفظ للسر ، وأنا لا أزال أذكره بكل خير.


        
تعييني عضواً في مجلس الشورى


في 22/2/1375 هـ كنت جالساً مع أخي ناصر والأخ فهد العيسى وبعض الأصحاب نستمع الى الأخبار في الراديو وفجأة سمعنا خبر تعييني عضواً في مجلس الشورى ، وبعد ذلك بيومين جاءني
تبليغ رسمي من المجلس بالتعيين ووجوب المباشرة  بالعمل، فنزلت الى مكه وباشرت العمل ، وكان الزملاء كلهم جزاهم الله خيراً يقدرونني مع انني كنت متبرماً من العمل في المجلس، وبالرغم من عدم وقوع المشاكل فقد تكونت عندي عقدة نفسية وحاولت محاولات شتى مع الأمير فيصل على أن يعمل على نقلي الى عمل آخر تظهرفيه جهودي ، وكنت في كل مرة أكلمه فيها يقول أنت عاجز فأقول لست عاجزاً ولكني غير راضٍ عن العمل في داخل المجلس .
وفي أواخر شهرشوال من عام 1376 هجرية أمر جلالة الملك بتشكيل لجنة للنظر في الحالة الاقتصادية والازمة المالية التي نشأت عن حادث السويس ، وقد تشكلت اللجنة على النحو التالي : سمو الأمير مساعد بن عبد الرحمن رئيساً ، والشيخ محمد سرور وزير المالية وخالد أبوالوليد والسيد جمال الحسيني ويوسف ياسين وراسم الخالدي ورجاء الحسيني وعبد الله القرشي الباكستاني الخبير بوزراة المالية والسيد حسن حسنين وأنا أعضاء عن مجلس الشوري ، وحضرنا في القصر الملكي في جدة وافتتح جلالة الملك الجلسة ثم أخذ الجميع في بحث الأمر، وطالت المدة في الدرس والمداولة وانتهت اللجنة من عملها في الثاني من ذي الحجة 1376 هجرية وقررت ما خلاصته : إن العجز الذي حصل بسبب غلق قناة السويس قد بلغ مائة وخمسين مليون جنيه ، وإن العملة التي هي ايصالات الحجاج اصبحت مهددة ، وترى اللجنة أن تصدر الحكومة عملة تسمى الدينار وأن تغطى هذه العملة بما يساوي النصف ذهباً والنصف الآخر بالعملة الاجنبية أي بالدولار والجنية الاسترليني وأن تزاد بعض الرسوم على الكماليات وأن تخفض المرتبات والمخصصات وغير ذلك من مصروفات الدولة .


      
   تعييني وزيراً مفوضاً في اليمن


في يوم 6/11/1376 هجرية ونحن في احدى جلسات اللجنة دعاني الشيخ محمد سرور الى الغرفة المجاورة لمقر مداولات  اللجنة فقال  خالد ابو الوليد : أين أيها الزملاء ؟ فقال الشيخ سرور: أمر ملكي !! ولما دخلنا قال لي : إن جلالة الملك يرغب في تعيين وزيراً مفوضاً في اليمن وقد اقترحت أن تكون ذلك الوزير وقال لي جلالته كلمه في ذلك وخذ رأيه هل يوافق لأني ما أحب ان اكرهه على شئ لا يرضيه . فقلت : يا شيخ محمد ما دام هذا كلام جلالته فلا يسعني إلا الامتثال والذهاب الى اي مكان يراه حفظه الله .
وأبرق للإمام أحمد ملك اليمن البرقية التالية:

                    ( نص البرقية)

ثم أجابه الإمام احمد بهذه البرقية :

                    (نص البرقية).

وفي يوم 24/11/1376 هجرية  صدر مرسوم ملكي بتعييني وزيراً مفوضاً ومندوباً فوق العادة لدى جلالة الإمام أحمد حميد الدين وتسلمت أوراق الاعتماد وأخذت أهيئ نفسي وعائلتي للسفر وطلبت اعفائي من اللجنة التي تنظر في الأزمة المالية فرؤي أن أستمر حتى تنتهي اللجنة من أعمالها ، ثم بعد الانتهاء طلبت السماح لي بالحج فوافق جلالة الملك وقمت بأداء مناسك الحج .
وفي 28 / محرم 1377 هجرية توجهنا بباخرة يمنية ، وفي غرة شهر صفر وصلنا الحديدة واستقبلنا ضابط الميناء حمود الجايفي في الباخرة وركبنا في (الساعي
ة) فلما قربنا من الساحل جلب الحمالين كراسي لنقلنا عليها الى اليابسة لأن المسافة التي تقف فيها الساعية بعيدة  والخوض في المياه متعب على امثلنا، فتمنعت في أول الأمر وقلت : كيف نركب على ظهور الناس ، ولكن نظرا لبعد المسافة رضخت لذلك بالرغم من كراهيتي له.
ولما وصلنا الحديدة وجدنا السيد أحمد محمد باشا نائب الحديدة في استقبالنا وكان رجلا بشوشا فقابلني وكانه يعرفني من عدة سنوات، ونزلنا في بيتين: الرجال في فلة غربي الحديدة والعائلة في بيت قرب الجمرك يقال له دار الحكومة ، وبعد يومين وصل في طائرة هليكوبتر ولي العهد محمد البدر من تعز وحدد لنا النائب الساعة الخامسة بعد الظهر لمقابلته ، فقابلته وبلغته سلام جلالة مولاي وولي العهد وقلت له : هل نقدم لسموكم صورة من أوراق الإعتماد ، فقال : زي بعضه !!! وكان كلامه هذا ببرود
، فلما شربنا كأس ليمون إستأذنت وخرجت ، ولم أكن مسروراً بهذه المقابلة الباردة .
بقينا في الحديدة تسعة عشر يوماً
، وكنت أقول للنائب أين سيكون محل المفوضية ، فيقول : والله ما أعلم، فقلت أسأل جلالته أو ولي العهد ، فأبرق للإمام فجاء الجواب سيكون مقرها صنعاء . وكنا نراجعه في التوجه إلى صنعاء ، لأن العائلة والأطفال تضايقوا من الحر والرطوبة في الحديدة ، وكان يقول لنا إن الإنتقال سيكون بعد إعداد المكان ، وبعد تعب سمح لنا بالتوجه إلى صنعاء على متن الطائرة السعودية التي كانت الحكومة قد أعارتها لهم ليستعملونها على خطوطهم الداخلية ، فقد كان الإمام قد طلب من جلالة الملك أن يعيرهم طائرة فأمر جلالته بأن تذهب كل شهر طائرة داكوتا تبقى عندهم ليستعملوها فإذا إنتهى الشهر يغيرونها بطائرة أخرى لأن الطيارين يتضايقون من البقاء في اليمن أكثر من هذه المدة ، وبعدها ذهبنا إلى المطار وأذا بمدير المطار يفاجئنا بقوله : نزن العفش، فلما وزن العفش وعّدَ الركاب قال : سلموا الأجرة !!! فعجبت لهذا التصرف , فالطائرة طائرتنا ويؤخذ علينا أجرة !! ودفعت مائة وتسعين ريال فرنسي . كما أنهم طالبونا بمصاريف الإقامة ، اربعمائة وتسعين ريال فرنسي ، فدفعتها لهم مع الشكر .
وقبيل الغروب وصلنا الى مطار صنعاء الشمالي المسمى المطار المدني فوجدنا السيد أحمد الشامي مندوبا عن النائب وإبراهيم الحضراني مندوبا عن وزارة الخارجية قد جاؤوا لأستقبالنا ومعهم سيارات الجيب في انتظارنا ، فركبنا وذهبنا الى مركز الضيافة ونزلنا فيه ، وبعد أن ا ستقر بنا المقام زرنا النائب السيد علي زبارة في بيته ثم زرنا الخارجية وسلمنا صورة من أوارق الاعتماد الى إبراهيم الحضراني بصفته مديراً لمكتب وزير الخارجية وولي العهد . وفي اليوم الثاني زرنا النائب
، ودار البحث حول مسكننا فقال: حضّرنا لكم بيت الحرازي ، وكان هذا البيت للحكومة ، وذهبناله فوجدناه غير جيد ، فقلت للنائب:لا يصلح . فقال علي زبارة : ما عندنا غيره وأنتم ضيوفنا ، فقلت: ما جئنا ضيوفاً وكثرالله خيركم، نريد أن نستأجر لنا بيتا فقال : ما يصير جلالة الإمام يزعل . فقلت : هذا البيت لا يصلح لنا بتاتا. وأبرقت لجلالة الملك، فأمر بأن يبرق الديوان لديوان الإمام لكي يبحثوا لنا عن بيت يليق بنا. واخيرا وافقوا على أن نستأجر بيتاً. فوجدنا بيتاً يسمى المنتزه في بيرالغرب استأجرناه بمبلغ 6000ريال فرنسي سنوياً . وكان هذا البيت يعود لجميل جمال الذي اشترك في قتل الإمام يحي وبعد قتله صادرته الحكومة ثمً باعوه لأخت الإمام زوجة السيد احمد الكبسي.
وانتقلنا الى ذلك البيت ، واستمريت مدة شهر ونصف انتظر الذهاب الى تعز لتقديم اوراق الاعتماد ولكن لم يصلنا أي خبرفراجعت الخارجية وقلت للمسئولين :
إن ذكرى جلوس جلالة الملك قربية  ولايمكن أن نقيم الحفلة قبل تقديم أوراق الاعتماد ، وأرجو أن تبرقوا لجلالة الإمام، فأبرقوا وجاءت الموافقة فتوجهنا بالطائرة أنا وإسماعيل المعنى الملحق الثاني في المفوضية ، فلما وصلنا مطار تعز إذ محمد ابن أحمد الشامي مدير الخارجية ينتظرنا في سيارة جيب فركبنا السيارة معه وذهبنا الى دار الضيافة وبقينا هناك خمسة عشر يوماً بانتظار تعيين وقت لتقديم أوراق الاعتماد ، وبعد أن ضاقت بنا البلاد حدد لنا يوم 19/4/1377 هجرية بعد العصر ، فلما حان الوقت حضر الى دار الضيافة السيد محمد الشامي ابن أخت الإمام ومديروزارة الخارجية  وتوجهنا معه الى قصر الإمام ، فلما وصلنا لم نجد هناك حرس شرف ولا موسيقي فدخلنا الى صالة فيها شئ مغطى قال إسماعيل المعنى أنه مدفع، ثم دخلنا غرفة على اليمين وإذا الإمام جالس على كرسي ومن خلفه فراش على الأرض للنوم  ، فسلمنا عليه ورد السلام وبشَّ بنا ، وأبلغته تحيات جلالة الملك وولي العهد فشكر لهم شعورهم  وقدمت له أوراق الاعتماد وألقيت بين يديه كلمة مناسبة ، وبعد ذلك انتهينا واستأذنا وخرجنا من عنده، والغريب في الأمر أنه لم يقدم لنا شيء لا قهوة ولا شاي ولا أي مشروب .
في اليوم الثاني سافرنا الى صنعاء وكأننا مطلقون من سجن ، وبعد عودتنا باشرنا أعمالنا بصورة رسمية وأقمنا حفلة
عيدالجلوس .

 

             يوم مفزع في صنعاء


عندما حصل الاتحاد بين مصر وسوريا قامت مظاهرة ضد المملكة وسارت في شوارع صنعاء ثم توجهت الى المفوضية المصرية وأخذت في الهتافات المعادية لنا ، ولم نشعر إلا والهتافات عند باب مفوضيتنا فخرجت إليهم وكلمتهم ، ولكنهم تجمهروا عند الباب وحاولوا الدخول ، فأمرت باغلاق الباب فذهبوا إلى بيت العائلة وأخذوا يهتفون فذعر الأولاد والعائلة فذهبت إليهم وطمأنتهم بأن هذا شيء عادي يجري مثله في كل البلاد ، وكانوا لم يعهدوا مثله. أرسلت الى وزارة الخارجية لأخبرهم بما حدث فحضر إبراهيم الحضراني والسيد احمد الشامي وحاولا أن يعتذرا فقلت لهما : " هذا شئ تم تدبيره بالليل ومن واجب إدارة الأمن أن يمنعوهم
، ثم إن المتظاهرين طافوا شوارع صنعاء قبل أن يأتوا إلى بير العرب والنائب والعامل فيها سمعوا ورأوا ، فلماذا لم يمنعوهم ويفرقوهم مع انهم سمعوا الهتافات ضدنا ، ونحن إخوانكم في الدين والنسب وهذا شيء لم يسبق أن حصل في اليمن . وأبرقت لجلالة الملك بذلك،  فأمرني بأن اذهب للإمام واقدم احتجاجي . فذهبت فعلاً ، ولما وصلت ذلك اليوم لم أتمكن من مقابلة الإمام لانه كعادته يتعلل بأنه مريض, وبقيت ثلاثة أيام وإذا بالبدر يصل وحسين الشافعي من القاهرة للبحث في مسألة اتحاد اليمن مع مصر، وكان البدر متحمساً لذلك الاتحاد، فقابلتهم في المطار وسلمنا عليهم ، وبعد وصولهم تظاهر التلاميذ والأستاذة وبعض الغوغاء واعتدوا على دار الضيافة وقذفوها بالحجارة وهتفوا بعض الهتافات التي يعلم منها إنها تقصد الإمام وابنه (أي البدر ووالده ) ولم يأبهوا بها مع انهم قطعوا صورة الإمام وداسوها بأرجلهم .

وبقيت على أحر من الجمر ، لأن رمضان يمكن أن يكون في تلك الليلة ، وسألت عن الامل في مقابلة الإمام بعد الظهر ، وكان من عادته أن لا يقابل أحد إلا بعد العصر ، فأجابوني بعدم وجود أمل في ذلك اليوم . فخرجت لأروح عن نفسي من الضيق أنا والقاضي أحمد الحضراني ـ وكانت قد نشأت بيني وبينه صداقة ـ وسرنا إلى مزرعة الإمام التي يقال لها عصيفره . وقد طلب البدر من الإمام أن يقابل حسين الشافعي وكان الإمام قد اخذ مكرها عهد المصريين الذي زجه فيه البدر. وقيل للبدر ان الوزير السعودي آت لمقابلة الإمام أولا ، فأرسلوا في طلبي مرتين ولم يجدوني ، وبعدها الح البدرعلى والده قائلاً: ما دام السعودي غير موجود في الضيافة قابل الشافعي . فوافق الإمام على كره . وفي اليوم التالي المصادف أول رمضان حضر محمد الشامي وقال لي إن الإمام طلب مقابلتك قبل أن يقابل الشافعي ولم نجدك ، فدعنا نذهب الآن إلى جلالته، فذهبنا وكان الوقت آنذاك الحادية عشر فلما وصلنا القصر ودخلنا على الإمام قال لي : سألنا عنك أمس فلم نجدك ، قلت :  كنت في عصيفره ، وأخبرته بتحيات جلالة الملك وانه قد امرني أن اتصل بجلالتكم واحتج على المظاهرة التي حصلت في صنعاء ضد جلالته وحكومته .

وكان الجو فيه شئ من الجفاء لأن جلالة الملك قد أرسل جمال الحسيني إلى الإمام بكتاب ورسالة شفوية وبقي الحسيني تسعة عشر يوما لم يتمكن خلالها من مقابلة الإمام فأبرق الحسيني لجلالة الملك يخبرة بنفاذ صبره من طول الانتظار ويطلب إرسال طائرة ليعود بها، فجاءه الجواب كالأتي " سوف تصلك الطائرة غداً وتوجه ومر على ابن عبيكان ويتوجه معك"، وأخبرالحسيني وزارة الخارجية اليمنية انه متوجه غداً في الطائرة التي ستصل وأبرق لي يعلمني بالأمر بأن أتوجه، كماابرق لي جلالة الملك بأن اتوجه مع الحسيني ، وفي الليل طلب الإمام مقابلة جمال الحسيني ، وكانت مقابلة غير كريمة ، ولما وصلت الطائرة جائته برقية بأن يتوجه رأساً ولا يمر بصنعاء وابرق لي جلالته بعدم التوجه، ويظهر أن جلالته فكر بأن يسحبني احتجاجاً على أعمال الإمام ثم عدل.
نعود ثانية إلى مقابلتي للإمام حيث بينت له الأمرفقال ان
هذا شئ لا يرضيه وانه سيرسل من يحقق في الموضوع  وبحث معي بعض الأمور الأخرى وقال انه ابرق لجلالة الملك لطلب مجيء جمال وان جلالته ابرق له ، وطلب البرقيات فوجد أن الكتبة قد خرجوا وكان الوقت الساعة الثانية عشر فقال : الوقت ضيق وان كنت نشيط بعد الإفطار أرسلت لك تجي اوارسلت لك الابن محمد الشامي ، وفي الصباح حضر الشامي واحضر البرقيات معه وإذا جلالته يقول فيها : إذا كذبتم مانشترته الصحف المصرية عن مقابلة جمال لجلالتكم فسوف يتوجه اليكم تحت خدمتكم . وقال الشامي : ويش الذي ذكرته الصحف ؟ جلالته أبرق إلى السفارة في القاهرة يطلب الصحف وأرسل إلى عدن سيارة لجلب بعض الصحف المصريه من هناك. فأخبرته بأن الصحف متوفرة في السوق وأعطيته مجلة آخر ساعة.
كنت قدأخبرت الإمام أثناء مقابلتي له بأن التظاهرات لم يسبق أن حصلت في اليمن وعاقبتها قد تكون وخيمة عليكم ولا بد أن جلالتكم علم بما حصل قبل يومين عندما وصل الشافعي إلى دار الضيافة ؛ فأكد انه سيجري اللازم . وفعلاً أرسل هيئة للتحقيق
، ولكن البدر وصل إلى صنعاء واوعز إلى الهيئة بأن لا تقوم بأي تحقيق.. ثم توجهنا إلى صنعاء في يوم 3 رمضان ، وبقيت في حالة سيئة من هذه المشاكل ، خصوصاً وان البدر كان يضايقني .
وفي شعبان من عام 1379 هجري
ة حصل معي بعض المرض فطلبت من سمو الأمير فيصل أن يمنحني إجازة مرضية فوافق ، وأرسلت الخارجية سليمان الناصر ليقوم بالأعمال بالنيابة ، فوصل قبل دخول رمضان بأسبوع .
ذهبنا الى جد
ة وبقينا نتعالج فيها لمدة ثلاثة اشهر، وكنت قد طلبت النقل من اليمن نظراً للمشاكل التي صادفتـني ، فلماراجعت الملك قال: روح هذه السنة وأنا أشوف لك محل إنشاء الله . فذهبت الى هناك وأنا مكره ، وبعد أن انتهت السنة كتبت لجلالته الخطاب التالي:

                    ( نص الكتاب )

فوصلني منه هذا الجواب:

                   ( نص الجواب )
وكان جلالته راضياَ عن السياسة التي انتهجتها ، فقد قمت بنشاط كبيرسواء في المجال الرسمي والحكومي أو في المجال الشعبي ، وبالرغم من النجاح الذي أحرزته في المجال الدبلوماسي فأني لم احصل
على أي مصلحة مادية نظراً لغلاء المعيشة هناك، فتزايد تضايقي من اليمن. وفي آخر رمضان حصل ما لم يكن في الحسبان، حيث فوجئت باستلام برقية من الخارجية تفيد بأن جلالة الملك يطلب توجهي حالاً ، فأبرقت لجلالته وذكرت له بأن المواصلات مفقودة وأرجو إرسال طائرة لنقلي وعائلتي . فجاءني الجواب بأن وزارة الدفاع والطيران سترسل لكم طائرة البريد لنقلكم وعائلتكم . فتوجهت يوم 26 رمضان ووصلنا الى جدة ونزلنا في فلة في فندق الكندرة ، وبعد العشاء ذهبت إلى وزير الخارجية في ذلك الوقت إبراهيم السويل فقلت له : ماالمسألة ؟ قال : قابل جلالة الملك وهو يخبرك ، وذهبت إلى مكة في تلك الليلة وقضيت مناسك العمرة ورجعت إلى جده . وفي اليوم الثاني ذهبت إلى مكة ومن فوري اتجهت الى القصر فوجدت محمد بن دغيثر فقلت له : وصلت وجلالة الملك حريص على أن أقابله . قال : اليوم سيتوجه الى الهدى ليفطر عند ابن لادن . قلت اخبروه ، فقال : لا يمكن ولكن تعال بعد العصر وقابلة إذا نزل ، وكنت متعب من السهر فذهبت إلى فندق بنك مصر واسترحت في حجرة فيه الى الساعة العاشرة فلما استيقظت ونزلت قالوا : إن جلالته ودَّع ومشى. فافطرنا في مكة مع العائلة وتعشينا في بيت الخال سعد بن سويلم ، ثم بعدذلك توجهنا الى الطائف الساعة الرابعة ليلا على الطريق الجديد، فلما وصلنا بين عرفه ومزدلفه قابلتنا سيارات نازلة من الطائف فصدمتنا احداهما صدمة عنيفة نشأ عنها جرح الأبناء عبد المحسن وخالد وكسرت رجلي، والحمد لله علي قضائه ولطفه . فأبرقنا لجلالة الملك نخبره بالحادث ، فاجاب جوابا لطيفا يأسف فيه على وقوع الحادث (هذانصه).
                     

وبقيت تحت العلاج خلال شوال وذوالقعدة . وفي ذي الحجة تحسنت حالتي قليلا ، وكان جلالته قد وصل الى جدة فتوجهت اليه بطريق الجو، فلما قابلته وسلمت عليه سألني عن حالي وحمد الله علي سلامتي ، وبقيت ثلاثة أيام في جدة ، وفي يوم 6 ذي الحجة استاذنت من جلالته للرجوع الى الطائف لاني لااستطيع الحج فقال: لا بأس الدرب عليك نجتمع هناك . وقد تبين لي ان استدعائي كان بناء علي طلب من الإمام الذي طلب سحبي لمجرد ظنون ظنها غير صحيحة .
وقبل ان انتهي من الفصل الخاص باليمن لا يسعني إلا أن اذكر شيئا عن جغرافيتها  وأهلها :
تقع اليمن جنوب غرب الجزيرة العربية ويبلغ عدد سكانها مابين اربعة ملايين الى اربعة ملايين وربع تقريبا، وينقسم اليمن الى قسمين تهامة ويسكنها قبائل الزرانيق وغيرهم من افخاذ قحطان ، والجبال يسكنها قبائل حاشد وبكيل وخولان وهمدان ، وكلهم من قحطان، ويسكنها ايضا قبائل من السادة ومن بينهم بيت حميد الدين الحاكم وبيت الوزير الذي ينازع بيت حميد الدين الإمامة، واول من دخل اليمن من السادة هو الإمام الهادي الذي ينتمي اليه معظم السادة في اليمن.

ويدين أهل اليمن بالاسلام وبينهم عدد من اليهود أجلى معظمهم الإمام أحمد الى فلسطين ماعدا بعض مئات يعيشون في صعدة وذمار . وينقسم السكان الى شوافع ، وهم سكان تهامة ،وزيود ، وهم سكان الجبال، فالشوافع تابعون للإمام محمد بن أدريس الشافعي - رحمه الله - والزيود تابعون للإمام زيد بن علي زين العابدين رضي الله عنهم ، ومذهب زيد كما هو معروف مذهب شيعي معتدل ، ولقد نبغ في اليمن من العلماء الأعلام من حاول الإصلاح والرجوع إلى مذهب السنة والجماعة ، منهم الوزير صاحب العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم ، والشوكاني والأمير محمد بن إسماعيل وغيرهم ، ويدين كل هولاء بالإمامة لإمام من أهل البيت بشروط عددها أربعة عشر شرطاً من جملتها : أن يكون السيد فاطمياً ذكراً عالماً مجتهداً كريماً شجاعاً يضع الأمور في مواضيعها ، وإذا توفي الإمام يجب ان يجتمع أهل الحل والعقد ويختاروا من يرون فيه الكفاءة ، ولم يخالف هذه الشروط إلا الإمام يحي الذي اغتصب الإمامة وجعلها ملكاً لابنه أحمد من بعده .
وكان بين السادة وا
لقحطانيين نزاعاً مستمراً ، يظهر مدة ويختفي مدة أخرى ، وكان السادة يشعرون الناس بانه يجب احترامهم وعدم منازعتهم لانهم أهل البيت ومن ينازع أهل البيت يكون ناصبياً ، اي ينصب العداوة لأهل بيت النبي صلي الله عليه وسلم ، ولقد حاول القحطانيون الاستيلاء علي الحكم وطرد السادة ، وحاول الاتراك والمصريون ذلك مرات عديدة ففشلوا نظرا لرسوخ العقيدة عند اليمنيبن ، وكانت اخر محاولة هي المحاولة التي قام بها جمال عبد الناصر بواسطة عبد الله السلال وباءت بالفشل .
وعلي وجه العموم فالشعب اليمني متدين ، وتكاد تكون المدرسة السائدة الآن مدرسة الشوكاني - رحمه الله وجزاه عن الاسلام والمسلمين خيرما يجزي المصلحين - وأما سياسة الإمام يحي فقد كانت شديدة ولكنها كانت متصفة بشيئ من التعقل والحكمة ، أما ابنه احمد فقد كان شديداً جداً ، بالرغم من أن الاثنين ، يحي
ى واحمد ، من العلماءالبارزين  ولهم مختارات في الفقه وفي اللغة والنحو وينظمون الشعر جيدا .
أماطبيعة اليمن الجغرافية فهي كما ذكرت سابقا تنقسم الى قسمين تهامة والجبال ، وتربتها خصبة جدا وكانت الرياح الموسمية تمدها بإذن الله بالامطار الغزيرة ، ولكن في الأربعينيات أو
الثلاثينيات حصل جفاف شديد مما أخر الزراعة ، ولوأن الحكومة كانت  نشطة وقامت بأصلاح السدود لمااصاب البلاد نقصا كبيرا في المحاصيل الزراعية ، فبعد ان كانت اليمن مصدرة للكثيرمن الحبوب أصبحت تستوردها ، اما المياه الجوفية فهي غزيرة جداً ولكن تحتاج الى جهود ومساعدات من الحكومة . ولقد بلي اليمنيون بتسلط الحكام الأمرالذي قلل جهودهم وبددها ، وقدكانوا من انشط العرب في الزراعة والاصلاح الزراعي ، ويشهد بذلك المدرجات التي يراها الزائر لليمن في سفوح الجبال ، وما زاد الأمر سوءاً هو القات الذي تسلط عليهم فيشل حركتهم من منتصف النهار الى منتصف الليل ويجعل الانسان في أول النهار منهوك القوى لأن فيه مادة قوية مخدرة . وقد اندفع الناس في اليمن - إلا القليل منهم - إلى استعماله، الأمر الذي دفع معظمهم ، نظراً لرواج سوقه بينهم ، الى ان يقطعوا أشجارالبن والكروم ويزرعوا بدلاً منها اشجارالقات ، لذلك قلَّت الصادرات وكثرت الواردات ولم يستطع اليمني الحصول على العملات الصعبة ، ولولا أن قامت المملكة العربية السعودية بدعم اقتصاديات اليمن لحصلت في البلد أزمة مالية شديدة وخيمة العاقبة.
وعلى كل حال فالشعب اليمني شعب عربي محافظ على عاداته وتقاليده .


   
         نقلي من منصبي في اليمن


أقمت في اليمن وزيرا مفوضا لحكومتي ما يقارب الأربع سنوات ، وكانت أقامتي في العاصمة صنعاء البلد الجميلة ، وقد اتيحت لي الفرصة اثناء اقامتي في اليمن الى تحقيق الكثير من الأماني التي تحققت بالتعرف على عدد كبير من أمرائها وأعيانها وقضاتها ، وحصلت
على الكثيرمن الكتب المخطوطة النادرة التي تزخر بها مكتبتي الخاصة ، كما حصلت على بعض الآثار اليمنية القديمة .

ومن الأمراء الكرام الذين تعرفت عليهم الأمير الشجاع محمد بن الحسين ، ومن العلماء والأدباء  محمد زبارة المؤرخ المشهور، والسيد محمد الشامي وأحمد الشامي والسيد يحي النهاري والأمير الحسن بن علي والقاضي محمد بن عبدالله العمري والقاضي محمد الحجري وعبدالله الحجري والقاضي عبدالرحمن الأرياني وإبراهيم الحضراني ووالده الأديب القاضي احمد الحضراني ، وقد حصل لي الشرف في أن دارت لي مع هؤلاء الرجال الكرام مناقشات وتبادل للآراء في كثير من المجالات العلميه والتاريخية والسياسية.
وما يجب أن أذكره ان هؤلاء الصفوة من القوم تكاد تكون نظرتهم واحدة عن الحكم القائم آنذاك في اليمن ، فكلهم مجمعون على أن الوضع في خطر شديد وكلهم ناقمون على إتجاهاته السياسية الجديدة والوافدة ويشعرون بأن الإمام احمد كان على غير صواب في إنسياقه وراء إبنه البدر الذي اخذ ينهج سياسة هوجاء وينساق خلف الأماني الشيوعية ويظن أن ذلك سيحفظ له عرشه الهزيل ،  وكنت ابذل جهدا غير عادي للإتصال والنقاش مع اولائك الصفوة من اليمنيين مثل احمد الشامي والعمري ويحي النهاري واستعرض معهم دائماً الأوضاع في البلاد العربية والإسلامية وتاريخ الجزيرة . وكان الإمام احمد على علم بكل ما كان يدور من حديث فيستحسنه ويؤيده ، مما جعل جهود البدر تذهب سداً أمام تلك الحملة ، والله يعلم ان ذلك الإندفاع مني كان عن عقيدة وحب لبلادي ولليمن الشقيق الذي اعتبره بلد عربي مسلم تربطنا به روابط دينية واخوية وتاريخية ونسب .
كان الجميع في اليمن ممن يؤيدون سياسة البدر حانقون أشد الحنق علي ، وقد كتبت الصحف المصرية عن نشاطي وعرضتني للسخرية ودعتني بلقب السفير الأعرج للمملكة العربية السعودية لأنني كنت لاأزال أعاني من اصابتي في الحادث المذكور سابقاً ، وضايقوني أشد المضايقة ، وكان آخر نشاط قمت به هو أنني استطعت بمساعدة اخوتي من اليمنيين ممن لهم نفوذ آنذاك أن أقنع الإمام احمد بالعدول عن السفر من اليمن الى مصر مباشرة ، إذ اقنعته أن يزور السعودية اولاً للعمرة وضمنت له بأن السعودية ستبذل في تكريمه الشيء الكثير ليكون ذلك تمهيدا لاستقباله في مصر استقبالاً غيرعادي ، واستطعت اقناعه أيضا بأن زيارته لمصر مباشرة ستكون زيارة عادية وغير مثيرة ، فاستحسن ذلك وأقره ، ولما علم البدر بالأمر نشط في إيذائي وحاول التخلص مني بكل وسيلة متخذاً كل ذريعة ممكنة ، وطلب من والده أن أخرج من البلاد وصمم أشد التصميم على التخلص مني ، فوافق الإمام احمد علي ذلك وطلب من المملكة أن تقوم بسحبي من اليمن . وتم ذلك فعلاً حسب ما جاء في البرقية التالية:
" نجدية..محمد بن عبيكان، توجه بعائلتك " . فعلمت أن الأمر قضي بلليل وطلبت من حكومتي إرسال طائرة لنقلي فأحضرت الطائرة من نوع (داكوتا) ، وعندما طلبت أن أودع جلالة الإمام احمد منعت من ذلك ولم أتمكن من وداع جلالته - رحمه الله .


       
          الثورة في اليمن


عندما عدت الى المملكة سمعت بقيام الثورة ف
ي اليمن ، وكان القائم بالثورة أحد المكفولين لدى بلاط الإمام أحمد ويدعى عبدالله السلال وكان والده تاجراً في سوق الملح وتوفي  فكفله الإمام يحيي - رحمه الله - وأدخله دار الأيتام ، وعندما اصبح شاباً ابتعث الى العراق ليدرس في مدارسه العسكرية ، ولما رجع كان أول غدر له أن شارك في ثورة ابن الوزير ، وعندما فشلت تلك الثورة وظفر به الإمام أحمد اكتفى بسجنه ، وبعد بضع سنين قضاها في السجن شفع فيه البدر وأخرجه من السجن واصبح مرافقاً خاصا له وتقلد عدة مناصب منها إدارة الأمن ثم ضابطاً مسئولاً عن ميناء الحديدة . وعندما توفي الإمام أحمد وتولى البدر مقاليد الحكم عينه رئيساً لأركان حرب الجيش ، وكان البدر يظن أن ما أسدى أليه من معروف يشفي غله ويواري حقده ، ولكن هيهات فقد كان في السلال حقدا يكفي جزء منه لتدمير اليمن ، وكان من لطف الله بي ان إجراءات سحبي تمت قبل انفجار البركان في اليمن .


 
       جمع المخطوطات العربية النادرة


ويسعدني أن اذكر هنا في ختام كلامي عن اليمن بأن الحظ قد ساعدني أثناء إقامتي في اليمن من أن أتمكن من تحقيق رغبتي في جمع عدد من المخطوطات العربية والآثار
، اعتزازاً بتراثنا وحضارتنا، فقد كانت هذه الرغبة تراودني منذ القدم واستطعت تحقيقها - بعون الله - أثناء وجودي في اليمن ، حيث أوصيت الكثير من السماسرة وذوي المعرفة لشراء أي مخطوطات أو قطع أثرية يجدونها بأي سعر كانت ، مع استعدادي لدفع عمولة لهم ، وبعد رجوعي الى الوطن قمت بتوظيب وترتيب ما جمعته من المخطوطات والكتب الثمينة النادرة في مكتبة كبيرة ، وساعدني علي فهرستها أستاذ جامعي سوداني ، ثم طبعت الفهرسة  ليسهل الاستفادة من الكتب واستخدامها ، وتحتوي المكتبة علي العديد من المخطوطات في كافة العلوم والأداب حيث تضم (247) مخطوطاً من بينها ثلاث مخطوطات للقران الكريم أهمها مصحف مخطوط منذ آلف وثلاثمائة سنة ، وهناك الكثير من المخطوطات الأخري التي يصل تاريخ بعضها الى عام 606 هجرية ، بالإضافة إلى القطع الأثرية الحميرية الفريدة  وسيوف استخدمها الملك صلاح الدين الأيوبي - رحمه الله - في تحرير القدس الشريفة من الصليبيين .