مذكراته


كان الوالد رحمه الله يسعى دائما الى تنظيم أموره بشكل يندر أن تجد من يماثله في حرصه على أن تكون أعماله تسير بطريقة منظمة بعيداً عن الارتجال .. وقد نشأ على ذلك مما ساعده على النجاح سواء في عمله او في حياته الخاصة .. وأبلغ مثل على أسلوبه المنظم تلك الوثائق والمكاتبات التي يحتفظ بها في ملفات والبومات بطريقة تسمح ببقائها اطول فترة ممكنة دون ان تتعرض للضياع او التلف .. وقد وجدت تلك الأوراق والوثائق في مكتبه بعد وفاته سليمة كأنها كتبت حديثاً بالرغم من أن لبعضها اكثر من ستين عاماً ، فوضعت ما يمكن نشره من تلك المكاتبات ضمن هذا الكتاب، وبعد تقاعده رحمه الله قام بتدوين مذكراته في اوراقه الخاصة وقام بطباعة اعداد قليلة منها ووزعها على بعض أقربائه وأصدقائه الخاصين .. وقد بدأ تلك المذكرات بالحديث الذي ذكرته سابقا عن حياة والده ، ثم تطرق الى نشأته في كنف والده وعمه عبد الله الذي كان رفيقه في سفراته للتجارة الى أن التحق بالعمل الحكومي، وختم مذكراته بطلب احالته الى التقاعد .
دعونا الأن نقلب في تلك الأوراق لنقرأ ماكتبه عن تلك الأحداث التي مر بها في حياته ..


  يقول رحمه الله :-
(( في سنة 1332 هـ قدم العم عبدالله من البحرين الى الأحساء ومعه بعض الاسلحة وتوجه بها إلى الحجاز، وعندما عاد طلب من والدي أن يذهب الى الرياض ويحضر العائلة جميعها الى الاحساء فقدم والدي الى الرياض لأقناع والدتي بذلك فرفضت مغادرة الرياض واقنعته بذلك، فأخذ زوجة العم وعاد بها معه إلى الاحساء  أماأنا ووالدتي فقد بقينا في الرياض ومعنا أخي ناصر الذي يصغرني سنا ونزلنا في دخنة مجاورين للأ ميرة الجوهرة بنت فيصل ( العمّه ) ولكن جدي مساعد بن سويلم عارض أن نسكن وحدنا فأخذنا الى بيته واسكننا في غرفة خاصة .

وفي إحدى الليالي أخذت والدتي تبكي وتبث حزنها وتذكر ما تلا قية من النساء في بيت جدي ، وكنت آنذاك لم اتجاوز الرابعة عشرة من العمر ولكنني كنت مرهف الحس فحزنت لحزنها وعرضت عليها أن تسمح لي بزيارة والدي في الاحساء لكي أطلب منه أن يوصي من يستأجر لنا بيتا في الرياض فوافقت على ذلك الاقتراح تحت الحاحي الشديد، وفي الصباح الباكر ذهبت الى خال والدي صالح بن يوسف بن عمران وشرحت له عدم راحتنا في بيت جدي ورغبتي في السفر الى الاحساء لمقابلة والدي من أجل ذلك ، فاستحسن ذلك مني ، وعرض علي السفر مع العم محمد بن ثنيان الذي قرر السفر إلى الاحساء ليكون أميرا في بلدة ( المبرز ) حسب أمر الملك عبد العزيز . فذهبت إليه من توي فوافق على سفري معه وأخذَت والدتي رحمها الله تعالى تعد لي مؤونة السفر ، وفي الوقت المحدد ذهبت الى بيت العم محمد بن ثنيان ـ وهو ابن عم الوالد ـ ومعي أقربائي من آل سويلم فودعوني والدموع تنهمر من أعيننا ، وهناك في بيت العم محمد بن ثنيان وجدت أنه أعد لي جملاً ، وفي تلك اللحظة أخذتني الهواجس وجعلت أفكر في والدتي وأخي وكيف يمكن فراقهما ، وفي لحظة كئيبة قررت العدول عن السفر فتركت أمتعتي في بيت العم محمد بن ثنيان وذهبت مسرعاً وأنا اعدو الى بيت جدتي لأمي فوجدت البيت مغلقاً وعلمت أنها ذهبت لزيارة أخيها عبد الرحمن بن عبد الله السويلم .. ومن الطريف أنني كنت اعلم أين تودع جدتي مفتاح البيت عندما تخرج لبعض شئونها فقد كانت رحمها الله تضع المفتاح عند جيران لنا يدعون آل حوبان فطرقت الباب عليهم وأخذت المفتاح منهم ودخلت الدار واختبأت في الداخل واغلقت علي الباب، وعندما حان موعد السفر جعل الركب يلتمسونني ولكن بدون جدوي حتى أن العم محمد بن ثنيان رحمه الله ، قال أنه قد يعدل عن السفر ولكن أخاه العم ثنيان، وكان رجلاً حاد الطبع مهيباً في تصرفاته، رد عليه قائلاً لن نترك ابننا هنا أبداً ولابد أن يصحبنا، فأسرع الخطي نحو بيت جدي مساعد بن سويلم وطرق الباب بشدة وطلب أن أخرج إليه وقال بانه لن يتركني ، فرد عليه جدي قائلاً: لن نحول بينكم وبين ولدكم ، وارشده الى المكان الذي اختبأت فيه فجعل العم ثنيان يطاردني وقفز من بيت مجاور لبيت جدتي الذي اختبأت فيه حتى أمسك بي بشدة وجعل يضربني ـ رحمه الله ـ  ضرباً شديداً حتى اذعنت ، وهناك وجدت العم محمد قد هيأ لي ذلولا حمراء ، ونهرني العم ثنيان قائلاً: اركب ذلولك يا محمد وسوف يصحبك ابن عثمان رديفا لك، فرفضت وعاندت وجعلت اصرخ وانادي: اريد أمي ..  فما كان من العم ثنيان إلا أن ضربني واجبرني على ركوب الذلول ، وبلغني أن والدتي عندما بلغها الخبر بكت وغضبت على عمي ثنيان لأنه ضربني وأجبرني على السفر الى الاحساء .

 ثم أخذنا في المسير وانطلقنا من البطحاء شرقي الرياض ، وكانت القافلة كبيرة جدا وفيها عدد كبير من أهل الرياض ، أذكر منهم الشيخ سليمان بن سحمان والشيخ عبد الله بن إبراهيم آل الشيخ الأخ الاكبر للشيخ محمد بن إبراهيم مفتي البلاد السعودية ومعهما أحد ظرفاء الرياض في ذلك الحين هوعثمان بن حزيم , رحمهم الله جميعا، وكان الثلاثة في طريقهم الى البحرين للعلاج  بالطرق الحديثة التي لم تكن قد وصلت بعد الى بلادنا ، وكان عثمان بن حزيم حاضراً في الركب ويمازح الناس ويداعبهم على طريقة الناس في ذلك الحين ، ولما كنت شاباً حدثا لا أعرف ما يعني مزاح الكبار فقد تورطت مع عثمان بن حزيم رحمه الله حين مر بي وناداني بلقب لجدي مساعد بن سويلم لا أرضاه له فتأثرت لذكره ذلك اللقب واضمرت له السوء في نفسي وحقدت عليه حقد الصغار وتربصت به حتى سار الركب ... وعلى حين غفلة منه أهويت على ذلوله بمشعاب كان في يدي فجَمَحت به وجعلت تعدو وهو ممسك برحل الناقة التي لم تذلل وكاد أن يسقط من عليها لولا أن سلمه الله ولحق بالناقة بعض البدو الاشداء فامسكوا بها ، واغتاظ عمي ثنيان لذلك العمل وحاول أن يضربني فاعترضت وقلت له : لماذا يعيِّر جدي !!! فضحك الركب كلهم وقال عثمان رحمه الله وهو يضحك :  أتوب ..  وجعل ابهاميه بين نواجذه .
كنا نسير ليلاً ونهاراً وكنت اعلو الشداد في النهار وكان رديفي هو محمد بن عثمان ، وفي الليل كنت انام وسط الخرج و يعلوابن عثمان على الشداد، وكان السير يستغرق الليل والنهار لأننا كنا نخشى من الظمأ في الدهناء والصمان .


وصولنا الى الأحساء

بعد ثمانية أيام من السير ليلا و نهاراً وصلنا إلى مدينة الهفوف وقصدنا دار الإمارة لمقابلة أميرالأحساء الأمير عبدالله بن جلوي ، فنزل المشائخ و معهم عثمان بن حزيم عنده لأنهم في طريقهم إلى البحرين وأمر عمي بالتوجه الى مقر الإمارة في المبرز بدلا من اميرها الذي اختلف معه ، وكان عبدالله بن جلوي قد عرف بالشدة ، وحدث ذلك الخلاف بعد وقوع مشادة بينه و بين امير المبرز فكتب إليه هذا الأخير يقول له (أنا أمير و أنت أمير) فصعب ذلك على إبن جلوي فكتب للملك عبدالعزيز كتاب يقول فيه ( إما أن تأخذ عني مجنونك هذا وإلا أرسلت لك رأسه ) . فما كان من الملك عبدالعزيز إلا أن عزله في الحال وارسل العم محمد بن ثنيان بدلا منه.

عندما وصلنا إلى المبرز أخذ عمي في إجراءات الإستلام للإمارة وبقيت عنده هناك نحواً من شهر، وكان والدي آنذاك يقيم في بلدة الجبيل ويتاجر بالمواد الغذائية ، والجبيل في ذلك الحين بلد نقي الهواء حديث البناء و يقع وسط البادية في تلك الناحية .

 طلبت من العم محمد مقابلة والدي فاستأجر لي حماراً من جماعة العيون الذين يترددون عادة على القطيف و جهاتها ثم أركبني معهم ، وكانت الأجرة إلى هناك بريالين فقط ، وأعطاهم شيئاً من الأرز والتمر مؤنة لي ، وتوجهنا سوية إلى القطيف على تلك الحمير ، وبعد ثلاثة أيام وصلنا إلى بلدة القطيف ، وكان أميرها آنذاك أحد أخوالي ، عبدالرحمن بن عبدالله بن سويلم ، فقصدته و نزلت عنده ، وكان مدير بيت المال هناك هو المرحوم يوسف بن عمر بن سويلم وعندما علم بوجودي جاءني الى بيت خالي وأخذني وأسكنني في حجرة في بيته وأشترى لي ثوباً وغترة ، وجلست عنده بضعة أيام ، وبعد ذلك إستأجر لي حماراً من أهل (أم الساهك) واشترط عليهم إيصالي إلى والدي في بلدة الجبيل قبل حلول الليل .


   وصولي إلى الجبيل

 

في الصباح الباكر تركنا القطيف إلى الجبيل ، وقبيل غروب الشمس وصلنا إلى هناك ، وكان والدي على علم بأنني سأقدم عليه في هذا اليوم فجعل ينتظرني خارج السور رحمه الله ، وعندما أبصرته نزلت من الحمار وذهبت أعدو نحوه في لهف و شوق، و كان لقاءً مؤثراً جداً .

وكان بصحبته في ذلك الوقت عبدالله بن صالح بن يوسف الذي قدم من البحرين لتوه ليتاجر في المواد الغذائية والقهوة ، وفي اليوم الثاني إختليت بأبي وجعلت أبكي بين يديه و قلت : إن والدتي وأخي في بيت الجد مساعد وانهم غير مرتاحين فلو أمرت من يأخذ لهم بيتا للسكن فيه مع أخي ناصر - وكان صغيرا  لم يتجاوز الرابعة- فإن ذلك أفضل كثيراً ، فقال لي رحمه الله : حلت البركة يا لحميدي .. ويقصد بالحميدي محمد .. فقدكان كثيرا مايدعوني بالحميدي من باب الرأفة رحمه الله و جزاه  ما جزى والد عن ولده .
بقيت عند والدي أطبخ له وأقوم بعمل ما يلزم من أمور الى أن دخلت سنة 1333هـ ، وفي تلك الأثناء بلغنا خبر وصول جدتي لأمي إلى الأحساء عند أولادها ، وهنا قال والدي رحمه الله : الآن يجب أن تذهب الى الرياض لاحضار امك وأخيك فلم يعد هناك عذر لبقائهم في الرياض ولتسكن أمك الأحساء مع والدتها إذا رغبت فإنه اقرب لنا على كل حال . وعندما تقرر هذا سافرت مع والدي إلى البحرين لجلب بعض الهدايا.


   العودة إلى الرياض

عدت إلى الرياض من البحرين وقد مررت بالأحساء في طريقي إليها ، وذلك في شهر شعبان من عام1333هـ ، وهناك وجدت قافلة من الركب تريد الذهاب إلى الرياض فصحبتهم وكان فيهم جماعة ممن أعرفهم من أهل الرياض ، أتذكر منهم الشيخ عبدالرحمن بن اسحاق وعبدالله بن هديان ، وفيهم أناس من أهل شقراء من بينهم إبراهيم الجميح ، وكان الطريق آنذاك مخيفاً فسرنا في طريق خفي حتى وردنا ماء (جوده) وهناك وجدنا الماء آسناً فتركناه ولم تقبل انفسنا السقيا منه ، وأخذنا نحث السعي خوفا من أن يدركنا الظمأ حتى وردنا موردا يدعى (المشاش) فوجدنا به قليلا من الماء ، وكنا في غم شديد خوفاً من ركبان القبائل التي تختلف الى ذلك الطريق فيما بين الرياض والأحساء وتنهب القوافل ، ولكن الله سلم ، وبعد ليلتين وردنا مياه (العتش) ، وهناك أمِنَ خوفنا حيث وجدنا أناساً من قبائل سبيع يقطنون ذلك المورد ، وانطلقنا من هناك إلى أن اقتربنا من مدينة الرياض فتقدم جماعة منا ، وكنت أنا من بينهم ومعنا عبدالله بن هديان والشيخ عبدالرحمن بن اسحاق وابوعلي بن حسين، وعلى مسافة بعيدة من الرياض في مكان يدعى (المنيحيز) شاهدنا الشمس وهي تغرب ورأينا نورا ملأ لئاً  فوق أحد أبراج القصر وهو عبارة عن سراج غازي محقون بالهواء يسمى (الاتريك) فسررنا لرؤيته ونوره المتوهج ، وكان ذلك قبل إضاءة المدينة بالكهرباء التي لم تنعم بها الرياض إلا بعد ما يقارب الأربعين عاما من ذلك التاريخ ، وعلى منظر ذلك النور المتوهج أخذ بعض الجماعة يصف للبعض كيف يشتعل ذلك السراج وانه ليس لكل انسان القدرة على اشعاله , الى مثل هذه الأحاديث الساذجة التي يراد منها قطع الطريق .
عند وصولي الى الرياض ، بعد العِشاء ، توجهت فوراً الى حيث تسكن والدتي وأخي ، وعند الباب انَخت راحلتي دون أن يشعر بي أحد ثم قرعت الباب ، وكان الوقت متأخرا بعض الشئ بالنسبة الى عادة أهل البلدة في ذلك الحين ، ولما عرفت والدتي مَنِ الطارق ذهلت واغمي عليها ، ففزعت فزعاً شديداً وانكببت عليها اقبل رأسها والثم يديها ، وعندما افاقت ضمتني الى صدرها رحمها الله وبدأت عينها تنهمر بالدمع من شدة فرح اللقاء ، وكان لقاءً ساراً وشاعت الفرحة في البيت ، وبقيت اسبوعاً عند والدتي .

وبعد أيام قررنا الرحيل الى الاحساء ، وكان ذلك في شوال عام 1333 هجرية .


   رحيلي بوالدتي الى الاحساء

 

عندما قررت أنا ووالدتي الذهاب الى الأحساء استأجرت ثلاثة ركائب من الإبل واحدة منهن حملنا عليها هودج وبعض العفش وخصصتها لوالدتي , والناقة الثانية شددت عليها ( شداداً ) وجعلت عليها ( خِرجاً ) وجعلتها خاصة بركوبي ومعي الأخ ناصر ، أما الناقة الثالثة فقد حملنا عليها باقي الامتعة وما نحتاجه من الاغذية من التمر والرز وما أشبه ذلك ، وفي الحقيقة أنني لم أتعود الركوب فكنت أقطع الطريق مشياً على قدمي وكان يصحبنا في الطريق عبد العزيز بن ثنيان وفهد بن باز و ناصر بن دحام ، وكانت رحلة ممتعة لو لا ما ينغص علينا فيها الاخ ناصر من عبث الطفولة البريئة .
في اليوم الثامن من أيام سيرنا وصلنا الى الاحساء ، وكان دخولنا من جهة حي ( الرقيقة ) ، وجدنا العم عبد الرحمن بن سعد الراشد رحمه الله ينتظرنا على ظهر فرسه وطلب منا أن نسير معه إلى المبرز وفق رغبة والدي ، وكانت الصدمة عنيفة بالنسبة لي لأنني سبق أن تفاهمت مع والدي على أن يكون السكن في الهفوف بدلا من المبرز لأن الهفوف بلدة كبيرة وكل من قدم أو ذهب الى الرياض كان ينطلق منها ، ومن ناحية أخري فان أخوالي كانوا يسكنون تلك البلدة ، ولكن والدي أثناء غيابي قررأن يسكن بلدة المبرز بالقرب من أبن عمه عبد الرحمن بن را شد ، وكانت تربطه به رابطة مودة وصداقة رحمه الله .

كان والدي يحتفظ  ببعض النقود القليلة التي حصل عليها عن طريق التجارة في بلدة الجبيل فقررأن يشتري جزءاً صغيراً من صاحب نخل في المبرز ووجد قطعة بسبعمائة ريال فرانسي فاشتراها ، وكان بها ما يقارب المائة نخلة ، وبقي والدي بعدها صفر اليدين لا شئ عنده من النقود .


  السفر الى البحرين للتجارة

 

عندما رأي والدي أن الأمور قد تزداد تعقيدا بسبب قلة اليد قرر أن يبعثني الى البحرين ومعي بضاعة تتكون من مائة ( تنكة ) من السمن الجيد لبيعها هناك والسكن عند أخوالي ، وبعد أن أبيع البضاعة طلب مني أن أشتري بالقيمة شيئاً من الرز.
وفي البحرين بدأت في تصريف بضاعتي ، وعندما عدت في المساء الى المسكن فوجئت بخبر سار وهو وصول عمي عبد الله إلى بومباي في الهند قادماً من بلدة مصوع في أفريقيا الشرقية ، وأنه قرر أن يتوجه الى البحرين في القريب العاجل ، فبقيت في البحرين أنتظر وصول عمي ، وما هي إلا أيام قلا ئل حتى وصل ومعه كمية من القماش يقدر ثمنه بأربعين ألف روبية ، وكان السوق في البحرين في تلك الأيام يعاني كساداً، وعندما علم بذلك أبقي كمية القماش في الهند أمانة لدى إبراهيم بن فضل إلى أن يتحسن السعر، فسررت لذلك الخبر سروراً عظيماً وأقمنا بعد وصوله في البحرين مدة شهرثم توجهنا الى الاحساء ومعي بضاعة الرز التي طلب والدي أن أشتريها بثمن السمن ، وبعد وصولنا الى هناك واجتماعنا بالعائلة قررعمي رحمه الله أن يتزوج لأن زوجته كانت قد توفيت قبل سفره فشق ذلك عليه وكان يحبها حباً شديدا خصوصاً وأنها أبنة عمران بن عبد الرحمن العمران الشخصية المعروفة في الرياض ، فقام بخطبة ابنة المرحوم عبد الله بن محمد بن مزروع ، وكانت تسكن عند عمها سليمان بن مزروع الذي تزوج أمها بعد وفاة والدها ، فقبلوا الزواج منه ، وبقي عمي في الهفوف ،  وقرر والدي أن ينتقل بعائلتة إليها ، وعندما التأم الشمل في الهفوف قررت السفر الى البحرين لطلب الرزق ، وأثناء إقامتي في البحرين اشتريت بضاعة من الرز وسافرت بها إلى عمان ، وبعد أن نجحت ببيعها أشتريت بثمنها بضاعة معروفة في تلك البلاد وهي عبارة عن أسماك مجففة تسمي ( العوم ) وأرسلت تلك البضاعة إلى بلدة العقير لبيعها في الاحساء حيث يستعملونه لعلف البقر ، لأنه كما يقولون يزيد اللبن والزبد ، وعند رجوعي صحبت عمي إلى الجبيل وكنت أقوم بالطبخ وغسل الأواني وعمل القهوة ، وكان عمي يمارس مهنة الطواشة ( شراء اللؤلؤ ).

عندما أنتهى موسم الغوص توجهنا سويا الى البحرين من الجبيل لبيع ما لدى عمي من بضاعة ، وفي البحرين أرسل عمي بطلب بضاعته من الهند ، التي تلف بعضها هناك ، وعند وصولها إلى البحرين أخذ يعالج ويغسل بعضها ويعرضها في سوق البحرين الذي كان رديئاً في ذلك الوقت .
في تلك الأثناء كنا ننزل في غرفة واحدة من بناية يملكها المانع على شاطئ البحر، وكان من أهل حريملاء رجل اسمه عبدالعزيز يسكن الاحساء وصديقاً لعمي يزورنا في تلك الغرفة كل يوم تقريباً ، لأن غرفتنا كانت مجاورة للبحر وباردة وكان الوقت صيفاً ، وكانت زيارته لنا وقت الراحة ، فإذا حضر امرني العم بأن أعمل لهما القهوة واغدوا عليهم بها، فكنت أتضايق جدا من ذلك ولكني لا استطيع أن عارض أوامر عمي ، و يشاء الله أن يحضر إلينا عبدالعزيز في يوم من الأيام وهو موجع العينين ويعاني آلاماً شديدة ، وعندما رآه عمي تيقن أنه مصاب بمرض الرمد في عينيه فأشار عليه أن يقطِّر فيهما دواء القرمز ، والقرمز هو حبوب ملونة تذاب وتقطر في العينين ، وهو العلاج الوحيد لأمراض العين في ذلك الزمن ، وكان عمي رحمه الله عنده شيئا من القرمز جعله في خرقة وربطها وأمرني أن أضع تلك الخرقة بما فيها من حبوب القرمز في فنجان وأن أسكب عليها قليلا من الماء حتى يحين وقت النوم وأقوم بتقطير الدواء في عينيه، ولكني أضمرت في نفسي أن أضيف إلى ذلك الدواء شيئا من الفلفل الحار حتى إذا قطر عبد العزيز في عينيه يحس بالألم والحرارة و يذهب إلى مكان آخر ، لأنه ضايقني بوجوده هنا كل يوم .
وفعلأ عملت هذا العبث الصبياني ، وفي الليل قمت بعملية التقطير في عيني الرجل ، وكنت خائفاً من أن يكتشف عمي ذلك الأمر فيضربني ، وعندما بدأت أقطر في إحدى عيني الرجل صرخ من شدة الألم فقال العم رحمه الله : (لا تخشى يا عبد العزيز فإن هذا الدواء نافع وإن كان حاراً ) ، وأمرني عمي أن أقطرفي عينه الثانية وقطرت بها فصرخ أيضاً وجعل يتململ من الألم ، وفي تلك الليلة لم ينم الرجل وكنت أتمنى أن يثنيه المرض حتى لا يبصرطريقه ، ولكن حيلتي باءت بالفشل ـ والحمد لله ـ ولم تنجح واصبح الرجل سليم العينين معافا0
لم تطل أقامتنا في البحرين، فقد قام عمي بتصريف بعض بضاعته واشترينا بعض الأرز وتوجهنا به إلى الحساء ، وبعد إقامة قصيرة في الاحساء سافر العم إلى إيران ، وهناك اشترى بضاعة من الفرش الإيراني وعاد به إلى الاحساء، وكانت بضاعة ناجحة فباعها ، وأثناء إقامة عمي بالاحساء أختلف مع زوجته لأنها كما يقول لم تنجب، وكان عمي عقيما ، فتركها وذهب إلىالجبيل ، وهناك فتح محلاً تجارياً وتزوج بامرأة مطلقة من قبيلة بن خالد ، اماانا فقدكنت قلقا في ذلك الحين لأنني لم استطع الزواج ، فألححت على والدي وعمي بأن يتركا لي حرية التجارة وأن يتفضلا بإعطائي شيئاً من النقود لكي أقوم بعمل فردي يخصني ، وبعد معاناة شديدة سمحا بإعطائي خمسمائة روبية فأخذتها منهما وذهبت إلى البحرين ، بعد أن أخذت بعض البضائع من أخوالي للمشاركة فيها ، فاشتريت من البحرين أرزاً وذهبت الى الجبيل وبعته هناك ، ولكن الربح كان ضئيلاً فرجعت الى البحرين ، وهناك أخذت بضاعة من الخال عبد الرحمن بن عبد الله بن سويلم الذي كان يقيم آنذاك في القطيف وذهبت الى البحرين وحاولت أن أغير نوع البضاعة وأن استبدلها ببضاعة من البز والخامات ، وتوجهت بعد ذلك الى بلدة الجبيل ، وصادَ فت بضاعتي سوقاً رديئة وكساداً شديداً ، فضاق صدري من ذلك ، وأشار علي العم بأن اسافر بتلك البضاعة الى بلدة المجمعة في نجد.

 

 سفري الى المجمعة

 

 أخذت بضاعتي وحملتها معي إلى المجمعة بعد أن اشتريت لي ذلولا وصحبت رفقة من البدو من هجرة  مبايض ، وكان الركب من البدو المتزمتين الذين يرون الحَضَر على غير هدى في الدين ، فكانوا يعاملونني معاملة سيئة ، رغم أنهم لم يشهدوا شيئا يشينني ، وكنت مواظباً على الصلاة معهم ، ومع ذلك كانوا ينظرون إلي نظرة لا تدعوا إلي الارتياح ، سوى واحد منهم  ، وزوجته ، الذي استأجرت منه بعض الجمال لحمل بضاعتي .

بعد وصولنا الى المجمعة كنت على علم بأحد رجالها الكرام ، وهو دهش العثمان التويجري ، وكانت سمعته قد وصلتني وأنا في الجبيل ، فقصدته بقصد الضيافة ، ووجدت فيه أكثر مما سمعت عنه ، كما وجدت أهل بلدة المجمعة من خيرة أهل بلدان نجد في كرم الضيافة وإكرام الغرباء ، وبلدة المجمعة في ذلك الحين من أفضل بلاد نجد عموما ، وهي بلاد طيبة الهواء ، ولكنها في تلك الأيام غير موفورة الماء لأنها كانت في سنة جدب وكان السكان يرتوون من خارج البلد من بير يسمونها (الفشخا) ، وبالمجمعة كثير من النخيل والبساتين ويزاول رجالها الفلاحة والتجارة في المواد المحلية والأسلحة والأطعمة وما يحتاج إليه أهل القرى وما تتطلبه حياة البدو، وفي المجمعة كثيرمن طلبة العلم ويسكنها كثير من القبائل العربية المتحضرة من عنزة وتميم , ومن غير هاتين القبيلتين .
كانت مجالس أهل المجمعة المعدة للضيف حسنة الترتيب والتنسيق ، وكانت أدوات القهوة تبدو لطيفة ، ولهم عناية بعمل القهوة وإعطائها النكهة الجذابة المحببة ، وغالبا ما تكون أبواب المجالس خارج المنازل، وأكثر تلك المجالس في الدور العلوي من الدار ، وتسمى مجالس القهوة في عموم نجد (الروشن)، والروشن كلمة فارسية انتقلت إلى وسط الجزيرة ضمن كلمات وأوصاف أخرى .
أمضيت هناك قرابة شهر وبضاعتي كاسدة لم يقبل أحد على شرائها ، ليس لردائتها وإنما لرداءة القوة الشرائية وتدني السوق ، وربما كان ذلك بسبب جشع تجار السوق عندما رأوا أني غريب وحريص على بيع بضاعتي ، وعلى كل فقد بعت بضاعتي وتخلصت منها في النهاية وبعتها بثمن أقل مما دفعته فيها وتعوضت بالله ، ولعل لذلك عدة أسباب من أهمها أنني شعرت بالحرج الشديد أمام مضيفي ، فقد أنزلني في بيته ولم يكن لديه غرفة أنام بها ، فكانوا - أهل الدار - يذهبون بي في الليل بعد صلاة العشاء كل يوم إلى بيت صغير يبعد عن بيتهم الأصلي ، وهو بيت قديم ومظلم مكون من دورين ، فإذا دخلت فيه قاموا بإغلاقه خلفي ، وكنت أشعر فيه بالضيق فإذا طلعت الى الدور الثاني منه خيّل إلي أن هناك أشباح تراقبني ، وذات ليلة حاولت أن أتعرف على تلك الأشباح فتقدمت إليها فإذا هي (غروب) السقي، وهي الدلاء الكبيرة التي تسحبها الحميرمن الآبار للسقيا وقد عُلّقت على أوتاد في الحائط فإذا نظرت إليها خيل إلي أن أحداً يتطلع إلي من الأبواب . والحقيقة أنني شعرت بوحشة لا مثيل لها ، وقد طلبت من مضيفي أن يتركني أنام في المسجد ولكنه لم يوافق على ذلك ، فرغبت بالعودة الى بلدي بأسرع وقت .

 بعد مضي شهر ، بعت البضاعة واشتريت بدلاً منها بضاعة من الفشك(طلقات بندقية) واستأجرت جملاً لحمل البضاعة عليه وركبت ذلولي التي بقيت عندي اصرف عليها وسببت لي متاعب كثيرة ، وكان ذلك حوالي عام 1340هـ ، وسرت في الطريق ومعي صاحب الجمل الذي إستأجرته لحمل بضاعتي، واستغرقت مسافة الطريق حولي خمسة أيام بين المجمعة والرياض ، وعند دخولي الرياض توجهت لدار ضيافة الإمام عبدالرحمن وسلمت عليه وأمربإنزالي في الضيافة ، ولكنني إعتذرت منه وذكرت له ـ رحمه الله ـ بأن جدتي وأخوالي من آل سويلم موجودون هنا في الرياض ، فوافق على سكناي عندهم .
كانت جدتي - رحمها الله - قد عادت من الأحساء فذهبت للسلام عليها وطلبت منها أن تسمح لي بأن أنيخ راحلتي في بيت العم محمد بن ثنيان ، أما المبيت فسوف يكون عندها ، فارتاحت  رحمها الله لذلك.

وفي أول يوم من وصولي إلى الرياض ، تناولنا طعام العشاء أنا ومرافقي في بيت الإمام عبدالرحمن بن فيصل ، أما بقية الأيام التي قضيتها وهي حوالي خمسة عشر يوماً فقد كانت موزعة على الأقارب والأخوال ، كل يوم عند واحد منهم .
وفي تلك الأثناء تخلصت من بضاعتي (الفشك) ببيعها بخسارة أيضاً ، و لم يبق من رأس المال إلا الشيء القليل ، كما ان ناقتي بقيت في يدي ولم أفرط بها لما لها في نفسي من مكانة .


 عودتي إلى الأحساء وزواجي فيها

 

بعد خمسة عشر يوما في الرياض ، توجهت إلى الأحساء بما معي من قليل المال ، وكان موسم الطوا شة ( بيع اللؤلؤ) قد حل ، فأزمعت السفر إلى الجبيل بعد أن تخلصت أيضاً من راحلتي بالبيع ، فقد بعتها بثمن بخس قدره مائة ريال فقط ، وهناك أخذت أقوم بالطواشة على طول الساحل الغربي للخليج واستطعت بتوفيق الله أن أحصل على مال يعتبر في حينه رأس مال لا بأس به ، وبلغت أرباحي في ذلك العام بما فيها رأس المال ثلاثة آلاف روبية هندية ، وعندما انتهى موسم بيع اللؤلؤ عدت إلى الإحساء ، ولما علم والدي بذلك رأى انه من الواجب أن أقوم بتحصين نفسي بالزواج مادمت أملك هذا المبلغ ، وبعد ذلك بدأنا أنا ووالدي نبحث عن فتاة من أهل الأحساء للزواج منها ، فذكر لنا أن هناك فتاة تتوفر فيها كل الشروط المطلوب توفرها في الزوجة من العقل والجمال والقدرة على تحمل أعباء البيت ، وعلمنا أن والدها هوعمر بن ناصر الفوزان ، رحمه الله ، وكان لوالدي صديق يدعى محمد بن عبدالله بالغنيم ، فطلب والدي منه أن يتوسط بيننا وبين والدها ، وما هي إلا يومان أو ثلاثة أيام حتى جائت منه الموافقة ، ثم بدأت الأستعداد للزواج من تلك اللحظة وقدمت للعروس عبائتين ومائتي ريال فرنسية وهي عبارة عن(السوق) ، وهو المهر المتعارف عليه ، ثم أتبعت ذلك بـ (الدفعه) وهوعبارة عن ناقة وعشرة رؤوس من الغنم الضأن وكذلك كيسين من الرز الجيد وكيس شاي ، وما إلى ذلك مما يدفع عادة في مناسبات العرس آنذاك ، وبعد عدة أيام تم عقد القران في بيت صديق والدي ، محمد بالغنيم ، وحضر معنا في ذلك اليوم الأقارب والأصدقاء ، منهم العم محمد بن عبدالرحمن بن عمران .
وفي اليوم الثاني بعد صلاة المغرب اجتمع الأقارب والأصدقاء وقُدِمت لهم بعض المرطبات ، وتدعى في ذلك الحين (الشربيت) ، وقد كان من بين الحضور في تلك الليلة ، إبراهيم القصيبي ومحمد بن جندان والعم حمد بن عمران والعم محمد والكثيرمن الجماعة ، وكان المعتاد في مثل هذه المناسبة أن نصلي جماعة في أقرب مسجد إلى بيت أهل العروس ثم نذهب سوياً بعد صلاة العشاء إلى بيت الزوجة حيث يكون أهلها وأقاربها في إستقبالنا . ويحدث في الأحساء بعض الطرائف في تلك المسيرة ، أي بعد الانصراف من المسجد الى بيت العروس ، وهي عادة ممازحة العريس وغمزه من الخلف ليضحك الجميع لذلك العبث البرئ ، إلا أن شيئاً من ذلك لم يحث لي ليلة زواجي بسبب وقار والدي - رحمه الله - الذي لا يرغب في ذلك ، وكان على علم بذلك العبث ، فأمرني أن أمسك بيد إبراهيم القصيبي ، وقام هو ومحمد بن جندان بالسير خلفي حتي لا تمتد أيدي العابثين في مثل تلك المناسبة .
بعد وصولنا الى بيت العروس قال أبن جندان : ( يا محمد أشكرني واشكر والدك لأننا حميناك ) فضحك الجميع في مرح لذلك القول ، وكان إبراهيم القصيبي يمازحني ويقول : انت يامحمد ماتعرف طريقة الزواج افعل كذا 00 وكذا ، وكان فيه ـ رحمه الله ـ الكثيرمن الجرأة ، فخجلت من كلامه ولم اردعليه سوى انني اخذت ابتسم 0
بعدما تناول الجميع القهوة ، انصرفوا الى بيوتهم إيذانا ببدء إفتتاح مراسيم الزواج ، وقام أهل المرأة بإدخالي الى مخدع الزواج ، وهو عبارة عن غرفة بداخلها غرفة أخرى مفروشة فرشاً بسيطاً ، وبعد لحظة قصيرة أحضروا الزوجة محمولة على قطعة من الفرش (زولية ) يحملها أربع نساء ، وبعد أن وضعوها أمامي تظاهرن بالجلوس مع الزوجة وهن محجبات فقلت لهن كالمعتاد ( في أمان الله ) فخرجن مسرعات إلا واحدة منهن استبقتها العروس وتشبثت بها ، وقمت احاول تخليص المرأة من يد الزوجة عدة مرات فكلما أخلصها من جهة كانت تمسك بها من الجهة الثانية ، واستمرت هذه المعركة الغريبة بضع دقائق ، وأخيراً تم النصر وخرجت المرأة من الغرفة ، وبقيت الزوجة عند زوجها طيلة ليلة العرس , وفي الصباح التالي زارني والدي وبعض الأقارب ، كما تقضي بها التقاليد ، وكانت الزيارة في بيت العروس ، وفي المساء أقام والد الزوجة حفلة الزواج ، ونحر من أجل ذلك ناقة وبعض الخراف ، وكانت مأدبة كبيرة حضرها الكثيرون.

 
  في طلب التجارة البحرية 

 

خرجت مرة اخرى في طلب التجارة ، وكان رأس المال الذي في يدي لا يزيد عن مبلغ ألف روبية ، وأخذت بضاعة بثلاثة آلاف ريال ، فاصبح جميع ما معي مبلغ ستة آلاف روبية هندية ، واتجهت الى بلدة الجبيل ، وهناك استأجرت بالاشتراك مع عمي مركباً صغيراً يسمونه الجالبوت بسبعمائة روبية كل مدة الصيف ، واستأجرنا بعض البحارة وبعض المجدفين من أهل الخبرة والمهارة ، وغالباً من يمتهنون هذه المهنة يكونون من أهل جنوب الجزيرة العربية ، وأخذنا نطوف عرض البحر ونتجول على السفن الكبيرة ، وأنتهت المدة دون ان يكتب لنا التوفيق في تلك الرحلة ، فأعطينا المركب لصاحبه وقفلنا راجعين الى الجبيل ، وبقيت هناك أتعامل في بيع اللؤلؤ ( الطواش ) واشتري من الغواصين مباشرة ، الذين يسمون في تلك الناحية ( أهل الرَدّه ) ، وهم الذين يعودون من الغوص ويبيعون محصولهم على أهل الساحل القريب ، أما العم عبد الله ـ رحمه الله ـ فقد ذهب إلى البحرين لبيع ما في يده من بضاعة ، وقبل ذهابه إلى البحرين قام بتأجير مركبة صغيرة كان يملكها مقابل الخُمس مما يحصل عليه المستأجر ، وكانت هذه عادة عند طواف البحر ، ويشاء الله أن يحصل أولائك المستأجرون على لؤلؤة ثمينة تسمي(الحصاة) اشتراها بعض السماسرة لأحد شيوخ الجبيل ، وهوعبد الله بن علي آل أبوعينين ،  وقد خالفوا بذلك الأسس المتعارف عليها ، لأن مثل تلك الصفقة لا تتم إلا بمعرفة ومشاركة صاحب السفينة المؤجرة ، ولما علمت بالأمر قمت بالاحتجاج عليهم وأبلغتهم بأن هذه مخالفة للعرف وطلبت منهم الحضور الى ( السالفه ) ، اي الذي يحكم في مثل هذه المسألة ، ولما رأوا حدتي في المطالبة وسَّطوا بعض الناس بيننا وقبلوا أن أكون شريكاً لهم مع عمي في الربع ، وكانوا قد اشتروا اللؤلؤة بألفين وخمسمائة روبية ، ثم ذهبوا لعرض اللؤلؤة  في البحرين ، وذهبت معهم الى هناك ، فسيمت ( ثـُمنت) أول الأمر ولم يخبروني ، واتفقوا معي على طرحها للمرابحة ( بمعني المزايدة بالقيمة عليها ) ولما رأيت الأمر كذلك ذهبت إلى تاجر اللؤلؤ المشهور ( عبد الرحمن القصيبي ) ، والد الوزيرغازي القصيبي ، وشرحت له الموضوع وعرفت منه ـ رحمه الله ـ أن تاجر اللؤلؤ الفرنسي قد طلبها منهم بعشرة آلاف روبية ورفضوا بيعهاله ، وشجعني على الدخول معهم في المرابحة ، وتعهد لي بدفع قيمة اللؤلؤة إذا ما رست علي ، فقد كنت لاأملك قيمتها ، ولكنها كانت شهامة ونخوة منه ، فأسرعت بالذهاب إليهم وهم في الميناء ونزلت معهم في المرابحة حتى وصلت قيمتها إلى أثني عشرألف وخمسمائة روبية ، فرست علي وطالبوني بتسليم القيمة حالاً ، وهم يعتقدون أنني سأعجزعن دفعها ، فقلت لهم ليحضر أحدكم معي ومعه اللؤلؤة لكي أسلم له القيمة وأستلم اللؤلؤة ، فوافقوا على ذلك بعد مشادة طويلة ، وذهب أحدهم معي إلى مكتب القصيبي ، وطلبت من القصيبي تسليم القيمة لهم بعد حسم ما يخصني ، وهوالربع ، وكنت قد اتفقت مع القصيبي علي ذلك ، عندها سقط في يد القوم وندموا على تعجلهم بالبيع ، وكانت هذه الحادثة في أواخر عام 1341 هجرية .
عدت الى الاحساء ، بعد أن أشتريت بعض القماش زيادة على ما عندي منه وارسلته إلى أصدقائنا آل فضل في الهند ، وبقيت في الأحساء حتى انقضاء فصل الشتاء ، ثم عدت إلى تجارة بيع اللؤلؤ ، ونظراً لضيق ذات يدي استقرضت عشرين جنيها من الذهب من العم محمد بن عمران ، وعلم احداقاربي بذلك ، وأثناء شد الرحال للسفر حضرإلي وطالبني بدفع الدين الذي له على الفور ، فاعتذرت له فلم يقبل عذري ، وبالغ في ذلك ، فما كان مني إلا أن أخرجت العشرين جنيهاً ودفعتها له وعيناي مغرورقتان بالدموع ورحلت من فوري قاصداً الجبيل ، وهناك إستأنفت نشاطي التجاري المحدود ، ولكن بدون طائل، وكنت أسكن في بيت عمي عبد الله ،ً فقررت السفر الى البحرين ثم الى الهند .

 

 السفر الى البحرين والهند

 

  سبق أن ذكرت آنفا أنني أرسلت جزءاً من بضاعتي من القماش إلى الهند ، وكان عمي قد أرسل ايضا جزءاً من بضاعته إليها ،  وعندما قررعمي السفر الى الهند لتصريف بضاعته قررت السفر معه ، واشتريت بضاعة من المرحوم سعد بن يوسف بن مانع بمبلغ خمسة آلاف روبية ، وعندما وصلنا إلى الهند أصبنا بخيبة أمل كبيرة عندما علمنا بكساد بضاعتنا من القماش ، وحاولت أن أبيع مامعي من بضاعة لتسديد المطالب التي علي ، فلم أفلح ، أما العم ـ رحمه الله ـ فقرر بيع جزء مما معه من اللؤلؤ ، وسافر إلى سيلان ليتأجر في استخراج الأصداف ، التي تحتوي عادة على شيء من اللؤلؤ، وكان الوقت شتاء ، وهو موسم الغوص في سيلان ، لأنهابلاد دافئة وساكنة الزوابع ، أما في رياح الصيف فلا يستطيعون الغوص .

أما أنا فقد بقيت في بومباي ، وكانت الوحدة تلفني ، وأرقتني الوحشة بعد جلستي فيها الى ما يقارب من أربعة أشهر ، فقررت العودة إلى الأحساء ، وبعت بضاعتي بخسارة كبيرة ، وأشتريت بضاعة جديدة من الزَرِي - وهو سلك مخلوط بالذهب - وشئ من العود ، أي حطب البخور الهندي المعروف .

 وصلت الى الأحساء قبيل عيد الفطر عام 1343 هجرية ، وعندما أردت عرض بضاعتي في السوق علمت أنها من النوع الثمين الذي لا يَقدم على شرائة أحد ،  فرأيت من المناسب أن أوزعه على شركائي الذين سبق أن بضّعوني ، وهم المرحوم بالغنيم وعمر بن ناصر، وأخبرتهم أنني خسرت في بضاعتي في القماش وأنني لم أبع العشرة إلا بثمانية .. والله يعلم أني أخفيت بعض الحقيقة حياءً  وخجلاً منهما وأنني لم أبع العشرة إلا بستة فقط ، أي بنقص 40 % ، ولكن الحياء غلبني ولم أرغب أن أجابههما بما يسوء.
بعد ذلك اشتريت بضاعة من التمر من الأحساء بثمن مؤجل ، وكان عليَّ أن أدفع عشرين ريالاً بدل ثمانية ريالات قيمة الثمن الحقيقية في ذلك الوقت ، وهي طريقة البيع التي تسمي في الاحساء ( الدين ) وفي نجد يسمونها ( الوعدة ) ، وبلغة فقهاء المسلمين تدعى مسألة (التورق ) ومعناه البيع المؤجل دفع ثمنه بزيادة مقابل الأجل ، وهو جائز بشروطه الشرعية المعروفة ، أما عمل الناس اليوم والتوسع فيه على غير الوجه الشرعي فالأمر لا تقرة الشريعة ولا الذوق والفطرة .
المقصود.. حملت بضاعتي من التمر وذهبت بها الى العقير ، ومنه الى قطر " الوكرة " ، وجعلت ابيعها بالقطاعي ، وما حصلت عليه من نقود كنت أشتري بها قماشاً أو لؤلؤاً ، وكان رأس مالي السابق ثلا ث مائة ريال ، ولكني في هذه الصفقة ربحت بحمد الله واستطعت أن أوفر من هذا البيع ما يعادل ستمائة روبية ، ثم استأجرت سيارة وذهبت الى الدوحة لترويج بضاعتي من القماش ، وهناك قابلت عبد الله بن غانم ـ رحمه الله ـ ، وكان صديقاً لوالدي ، فدعاني الى تناول طعام الغداء في بيته ،  فأجبت الدعوة وذكرت له سبب مجيئي الى الدوحة ، وأن معي ( تسبابة ) ، أي صرة من اللؤلؤ ، وأرغب في بيعها هنا فأشار علي أن اعطيها لولده راشد ليقوم بتصريفها ، فدفعتها إليه ، ولكنها فقدت منه ، فقلت له أبحث عنها و(طرّب) عليها أي نادي في الأسواق بأن بضاعتنا قد فقدت - ، وبحثناعن البضاعة لمدة يومين والمطرِّب ينادي صباحاً ومساء ، ولكن عبثاً حاولنا وفشلنا في الحصول عليها ، فرجعت صفر اليدين وبعت بقية التمر الذي كان تحت يدي ، وعدت أدراجي أبحث عن عمي ، وعلمت أنه في أبوظبي ، فواصلت السفر إلى هناك ، وهناك التقيت بعمي رحمه الله ، وكان مهموما من الديون التي تراكمت عليه بسبب فشله في إستثمار ما معه  من بضاعة ، وكانت حالته تلك مشابهة لحالتي ، فلما رأيت الأمر كذلك إقترحت عليه ، أوبالأحرى اتفقنا على أن نشد الرحال إلى دبي ومنها إلى مسقط ، ثم نواصل السفر إلى سوقطرة لنبدأ العمل من جديد ، وفي سفرنا هذا فوائد عديدة ، أهمها أننا سوف لا نلام على تأخير الحقوق التي في ذمتنا للناس ونحن لا نستطيع تسديدها .

 وعندما صممنا على الرحيل ، طلبنا من الأخ ناصر أن يرجع إلى البلاد ليكون قريباً من أهلي ، ولكنه رفض ذلك في أول الأمر ثم إقتنع أخيراً بذلك ، وكان عمره آنذاك لا يتجاوز الرابعة عشر .


السفر إلى مسقط وسوقطرة

 

كانت بداية سفرنا إلى مسقط على ظهرأحد البواخر البريطانية التجارية ، ثم واصلنا السفر إلى جزيرة سوقطرة { تقع في بحر العرب جنوب عُمان } على ظهر سنبوك كبير وقديم أكل الدهر عليه وشرب ، وكان السنبوك محملاً بالبضائع والركاب ،  ووجدنا به بعض الرفقة من جماعتنا ، منهم صالح النفيسه وشايع النفيسه ومحمد بن غنيم ، وكان وقت سفرنا بعد العصر، وعندما أدركنا الليل إلتجأنا إلى ميناء خور لنبيت فيه ، تخوفا من هبوب الزوابع التي تكثر في ذلك الموسم ، ومع ذلك فقد هبت علينا عاصفة شديدة بعد صلاة العشاء ، وكانت مصحوبة برعد ومطرشديدين ، ولولا أننا كنا في ذلك الخور الحصين لكادت أن تقع بنا كارثة ، ولكن الله لطف بنا ورحمنا.
ما كاد الصباح تظهر تباشيره حتى سار بنا السنبوك نحو الجنوب بإتجاه المحيط الهندي ، وفي اليوم التاسع وصلناالى (مرباط ) فنزلنا هناك ونحن في غاية التعب ، والتمسنا من أهل القرية ذبيحة نأكلها فلم نجد شيئاً فاشترينا بعض الدجاج وذهبنا نحن الخمسة ـ العم وأنا وشايع النفيسه وابن أخيه صالح النفيسه ومعنا رجل من أهل الزبير يدعي عبد المجيد ـ ذهبنا الى نمار ، وهناك ذبحنا الدجاج وعملنا معه ( مرقوق ) وهي أكلة شعبية مشهورة ، ونحن في غاية النشاط والسرور، وقبيل الغروب أرسل بطلبنا صاحب السنبوك لرغبته العبور ليلاً ، وكان علينا أن نسرع عسى أن نتمكن من ذلك ، فأخذ رجال السفينة وربانها  يستعدون لرفع الشراع ، وكان الربان  يردد على مسامعنا بأنه فزع من حالة الجو ، وان الرياح ربما لاتهب في صالحنا ، وبينما هو يتحدث الينا هبت ريح شمالية نشطة وبسرعة هائلة ومفاجئة مما جعلنا غير قادرين على العودة إلى المرسى ،  فقام البحارة بانزال الشراع الكبير واستبدلوه بشراع أصغر ، لكن السنبوك لم يهدأ ،  فأنزلوا الشراع ثانية واستعملوا شراعا صغيرا يدعى ( الجيب ) ،  وعانينا الأمَرّين بطول الليل ، وكنا نتوقع الغرق في كل لحظة .
سرنا طوال الليل وصباح اليوم التالي ، ووصلنا إلى ميناء (شرعب ) في وقت العصر، وكان بتلك البلدة جبل جميل أخضر تتوفر به مياه عذبة وشلالات جميلة المنظر، وعندما أستقر بنا المقام بحثنا عن ذبيحة نشتريها ونأكلها فلم نجد إلا (تيساً) وكنا في غاية الجوع لأننا لم نأكل في السفينة من كثافة المطروعدم إستقرار السفينة طيلة الليل وذلك اليوم لشدة العواصف .

مكثنا هناك وتناولنا بعض الأكل وبقينا في ذلك المرسى سبعة أيام لم نستطع السفر بسبب شدة الرياح ، وكان السفر إلى عرض البحر متعذر ونوعاً من المغامرة ، لأن أجهزة الأرصاد الجوية حينذاك كانت لاتزال مقصورة على السفن الكبيرة وليس هناك أي نشرة يهتدي بها الربان ، ماعدى الاعتماد على خبرته وحدسه وبعض الحساب الذي لا يتقنه أكثرهم ، وفي تلك الأثناء طلب منا صاحب السنبوك أن نخلي سبيله لأن الرياح شديدة وعدد الركاب كبير وأنه لا يستطيع مواصلة السفر بنا ، بالإضافة إلى أن ما معه من الطعام قد نفذ ، فاستجبنا لطلبه وأعطيناه أجرته فتركنا ورجع ، أما نحن و بقية الركاب فقد اتفقنا مع صاحب مركب صغير(جالبوت)  على السفر بنا ، وفي آخر النهار وصلنا (قلنصة) وهو الميناء الرئيسي للجزيرة ، وكان يسكنه قبيلة المهرة العربية وعلى رأسهم عفر بن جزين ، وعندما وصلنا الجزيرة في المحيط الهندي ، تلقفنا أهلها وهم يرحبون والكل يقول : عندي بيت للإيجار .. وكانت هذه عادتهم يستقبلون القادمين من سواحل عمان والمحيط ويعرضون عليهم السكنى في دورهم ، والغالب أن اكثر تلك الدور تمارس فيها الدعارة ، حسب ما بلغنا ، ولما كنا مجموعة ممن يأنفون الوقوع في هذه المساويء ، طلبنا منهم بيتاً خالياً ليس فيه سكان ، فتقدمت إمرأة منهم وتدعى ( قمر) وقالت إن عندها بيتاً خالياً وأجرته أربعين روبية للشهر الواحد ، فاستأجرناه منها ، وكانت منازل تلك البلدة عبارة عن أكواخ من سعف النخيل ، وجدرانها من الحجارة ، وبعضها مسقوف بالخشب وجريد النخيــل ، وتقع تلك الجزيرة في المحيط الهندي ، وتبلغ مساحتها كمساحة البحرين تقريباً ، وهي بقرب الساحل الجنوبي لجزيرة العرب  ويتكلم أهلها لغة أشبه باللغة الأعجمية ، ويقال أن تلك اللغة هي لغة حمير ، كما كانوا يتكلمون أيضاً اللغة العربية الفصحى بالإضافة إلى اللغة المحلية ، ومعظم السكان من قبائل المهرة ، ويبلغ تعدادهم خمسين ألف نسمة ، وإنتاج الجزيرة هو التمر والعسل والصبر والصمغ ، ويمارس أهلها السحر والشعوذة ، وهم مشهورون بذلك ، ولكنهم مع ذلك يحبون الغرباء ويتعاملون معهم بسماحة واحترام ، وكان يحكم الجزيرة آنذاك رجل من المهرة شديد الحزم ، بلغني أنه يجمع في كل عام من يتعاطون مهنة السحر ويأخذ عليهم التعهد بعدم التعرض للناس وإلا فالعقاب سيكون نصيبهم . وأهل الجزيرة يشتغلون بتربية الماشية وجمع العنبر ، الذي يكثر على الساحل في أيام موسمه ، وتهطل الأمطار عليها بغزارة في أيام الصيف ، وعندما ينتهي موسم الأمطار يسافر الكثير من تجارها إلى زنجبار على سفنهم الشراعية يحملون بضاعتهم من الجلود والصمغ والعسل والذرة والصبر ودم الخوين ، وهو حجر صلب أحمر اللون يستخدمه العطارون في تركيب بعض الأدوية ،  وغذاء أهل الجزيرة الرئيسي الذرة المسماة (الحبش) ، يجرشونها ويطبخونها مع اللبن و يسمونها بعد ذلك (الحشيشة) ، أما الرز فلا يكاد يوجد عندهم ،  وكان معنا القليل منه ، وقد مكثنا بتلك الجزيرة مدة الغوص ، ولما لم يحالفنا الحظ قررنا السفر إلى عدن وأستأجرنا سنبوكاً صغيراً حمولته ستون طنا ، وقصدنا المكلا ، وفي طريقنا مررنا بجزيرة عبد الكوري ، التي تبعد عن سوقطرة خمسين ميلاً ، وتوقفنا بها قليلاً ريثما أذهب أنا وبعض البحارة لشراء ( ذبيحة ) من الجزيرة بامر من عمي ، وعندما نزلنا من البحر استصحبنا بعض أهل القرية ليدلونا على مكان يوجد به ذبائح للبيع ، وذهبنا إلى مغارة هناك وجلسنا مع جماعة منهم ريثما يحضر أحدهم بالذبيحة ، وفي هذه الأثناء شعرت بقشعريرة شديدة وارتفاع في الحرارة ، فعلمت انني قد أصبت بحمى الملاريا المنتشرة ، وأصابني دوار شديد وتقيؤ ، مما جعلنا نتأخر الى ما بعد العصر ، وعندما عدنا الى رفقتنا في السفينة وجدت العم غاضباً غضباً شديداً ، لكنه عنـدما علم بخبر مرضي هدأغضبه ـ رحمه الله ـ ولم نصل إلى مرفأ المكلا إلا في اليوم الثاني بعد العصر ، وصادف ذلك في أول ليلة من ليالي رمضان المبارك ، فبقينا هناك قرابة اسبوعين بانتظار سفينة تدعي (القهوجي) قيل لنا أنها قادمة في طريقها الى عدن ، وبعد وصولها ابحرنا الى عدن ،  وبعد يومين من سفرنا وصلنا إلى الميناء الرئيسي لعدن ، وهناك وجدنا بعض العربات التي تجرهاالخيول لنقل الركاب والعفش ، فاستأجرنا واحدة إلى قلب البلدة عن طريق مضيق الجبل الذي يحيط بعدن من جميع جهاتها ، وقبيل الظهر وصلنا الى دار أحد أصدقاء العم يدعى الشيخ محمد صالح فكر ، وهو رجل كريم ولطيف المعشر ، فرحب بنا وانزل ما معنا من متاع وأغراض وطلب منا أن نحل ضيوفاً علي داره ، فلم يقبل العم ذلك وشكره على كرمـه ، وعندما رأى إصرارنا ، اصطحب معنا رجلاً من عنده يبحث معنا عن دار للأجرة نقيم فيها ، فوجدنا داراً تصلح للسكنى وهي مكونة من غرفتين وحمام ، فأستاجرناها بمبلغ عشرين روبية هندية ، وعندما استقر بنا المقام هناك ، ارسلنا مامعنا من بضاعة إلى احد أصدقائنا في الهند ، وهو الشيخ مصطفى بن عبداللطيف ، وجعلنا ننتظر أخبار البضاعة وبيعها ونحن في عدن ، ولم يأت الجواب إلا بعد شهرين ، ومفاده أن (اللقم) قد سيم منه بمبلغ ثمانين روبية للحجر ـ الوزن المتعارف عليه بين أهل الهند ـ وأرسلنا له بأن لا يتعجل في البيع ، لأن تكلفته علينا أكثر من القيمة التي سيم بها ، وأثناء إقامتي مع عمي في عدن ، وردنا خبر من والدتي في الأحساء تعلمني بوفاة زوجتي  رحمها الله  ، فحزنت لذلك حزناًَ شديداً ، لاسيما وقد تركت أطفالاً صغاراً لايتجاوز الكبير منهم ( فهد) السنتين والصغير يبلغ الستة اشهر، ومما زاد الحسرة في نفسي أن والدتي مقعدة لا تستطيع تربيتهما ووالدي قليل ذات اليد ، وكان من المستحيل أن أعود أليهما بسرعة ، لاسيما وأنا مدين بما يقرب من ستة آلاف روبية ، وكل ما أملكه في ذلك الوقت لا يتجاوز الثلاثمائة روبية ، وقد إزداد بي الحزن كلما تصورت وضعي العائلي والمادي ، وعزفت نفسي عن الطعام مدة ثلاثة أيام بلياليها ، فما كان من عمي إلا أن جعل يلاطفني ويعظني ويذكرني بلطف الله ، ويضرب لي الأمثال ليهون علي وقع المصيبة.



 السفر إلى مصوع في أفريقيا


أخذ الحزن ينتابني إثر وفاة زوجتي ، أثناء إقامتي في عدن ، فقد أثرت تلك الصدمة العنيفة علي ، فما كان مني ومن عمي إلا أن إتفقنا على الخروج من هذا الحزن بإرسال برقية إلى صديقنا مصطفى نخبره ببيع ما لديه من بضاعة وأن يحول القيمة لنا بأسرع ما يمكن ، فباع مصطفى البضاعة وحول لنا القيمة ، أربعة آلاف روبية ، فأشترينا بها جنيهات ذهب ، وقررنا السفر إلى (مصوع) بأفريقيا على إحدى البواخر الإيطالية التي تتجه من عدن إلى هناك ، وبعد ثلاثة أيام في عرض البحر،  وصلنا إلى ميناء مصوع ، وفوروصولنا إلى هناك ، اتجهنا إلى بيت صديق عمي في تلك البلدة ، وهو السيد حسن الصافي ، فرحب بنا وكان لقاءً حاراً وعتاباً بينه وبين عمي بعد طول غياب وإنقطاع الأخبار، فأعتذرعمي ببعد الديار وعدم وجود البريد لنقل المكاتيب لتلك البلدة ، وبعد ذلك كررالسيد ترحيبه ودعانا ضيوفاً عليه في داره ، فقال له العم : نعم  نحن اليوم ضيوفك وبعد ذلك سنأخذ بيتاً نقيم فيه مدة إقامتنا في هذه البلدة . وبالفعل أخذنا نبحث عن بيت ، فوجدنا بيتاً مكوناً من طابق واحد مبني بالأسمنت والحديد ،  فأستاجرناه .
عندما نزلنا في مصوع ، كانت تتردد على السنة الناس إشاعة مفادها أنه في يوم الجمعة الساعة الثانية عشرة بالتوقيت الزوالي ستحدث كارثة بأهالي المدينة ، حسب ما تقوله الأرصاد الإيطالية ، وقد هز هذا الخبر كل سكان المدينة ، فأخذوا في الخروج والجلاء منها إلى بلدة أسمرة المجاورة لها ، وأخذ السكان يتسابقون و يحملون من أمتعتهم ما خف حمله وغلي ثمنه ، ولم يبقى في البلدة سوى بعض العقلاء والعاجزون عن السفر، أما أنا وعمي فلم نكترث بالنبأ ، وعددناه من ضرب التخمين واداعاء علم الغيب ، وبقينا في البلدة , وعندما مضى الوقت المحدد للحادثة ، انهالت على البلاد أسلاك البرق والتلفونات تسأل عن حال البلد ، وكان الجواب الحمد لله كل شيء على ما كان عليه ، فلم تخرب البلدة ولم يصب الأذى سكانها ، فأخذ الناس يعودون إلى البلدة ، بعد هجرانها ، وأخذوا يفتحون متاجرهم ويمارسون حياتهم الطبيعية.

 


  انفصام الشراكة مع عمي

 

بعد أن رجع الناس إلى البلاد إثر الشائعة عن احتمال قيام الزلزال بها ، أخذت اتمشى في الأسواق وأتجول في أزقة البلدة ، وأتعرف على معالمها واسواقها ، وأواجه الناس فيها ، وطالت مدة غيابي عن عمي الذي أخذ ينتظرني طويلا ، فتارة يقلق علي وتارة يترقبني ترقب المريب في سلوكي ، وعندما أبصرني قادماً ، ثار في وجهي بعصبية وغضب شديد ، وسألني عن سبب غيبتي كل هذه الساعات ، فقلت له أنني ذهبت أتنزه على الساحل وأتجول في القرية ،  فقال لي ـ رحمه الله ـ وهو يكاد يتميز من الغيظ : لا ..أنت ذهبت تبحث عن الفساد ، فأنت تعلم أن هذه البلدة من أخبث البلاد . فقلت له : كلا …وأنت تعلم ايضا أنني بعيد كل البعد عن هذه التهم ، وأنني أربأ بنفسي وديني عن الدنايا.. فلم يلتفت إلى كلامي وأردف يقول : من الآن لست شريكا لك ، وعليك أن تمارس تجارتك بنفسك ، وأعطاني ما قيمته ثلاثمائة روبية بالعملة الإيطالية ، وكان هذا المبلغ هو كل قسطي معه من الشراكة ، فأخذتها وأنا عاتب عليه .. ولما رأى مني ذلك قال:  ليكن في علمك أن جميع مصاريف السفر تحملتها عنك ، وعليك أن تنشط في تنمية رأس مالك. وعندما فكرت في تلك المسألة عذرته ، لأنه كان عليه ديون كثيرة لا تقل عن ثلاثين ألف روبية ، وأنا ليس علي من الدين أكثر من ستة آلاف روبية .

بعد ذلك خلا لي الجو في تلك البلدة ، ونشطت في ممارسة التجارة حتى كسبت، وعندما عاد عمي من عدن ووجد أن أموري تحسنت سر بذلك وقال : يظهر يا محمد أن أمورك حسنة إن شاء الله .

وفي تلك الأثناء ، وردني خطاب من الوالد يفيد أن ولداي قد أصيبا بمرض الجدري ، الذي كان شائعا آنذاك ، وأن الولد الصغير قد توفي نتيجة المرض ، أما الولد الكبير ( فهد ) فهو بخير والحمد لله ، وهنا إقترح عمي أن أخرج أنا وشخص يدعى محمد أفندي ، وهو رجل طيب تعرف عليه ، وأصله من مصر، جاء إلى هناك وتزوج من أهل مصوع وأصبح كأنه واحد منهم ، فخرجنا إلى أسمرا عن طريق السكة الحديدية ، وكانت المناظر طوال الطريق ، أخاذة وجميلة ، والجبال المرتفعة جُللت بالاخضرار ، وكان القطار يسير بنا أحياناً في أرض رحبة واسعة بين الجبال ، وأحياناً يدخل بنا انفاقاً إصطناعية لا نرى فيها إلا الظلام الدامس ، فكنت أعجب وأستمتع بذلك حتى وصلنا إلى بلدة أسمرا ‎.

 


  وفاة والدي رحمه الله

 

بعد وصولنا أنا وصديقي محمد افندي الى بلدة اسمرا ، ولم يمض علينا سوى ساعات قليلة ، جاء الخبر المؤلم بوفاة والدي ، وكنت في ذلك الوقت في دكان الشيخ محمد با شمّاخ ، وهو رجل كريم حسن العقيدة وتربطه بعمي رابطة صداقة ، فبينما نحن نتناول الشاي ، وإذا بالتليفون يرن جرسه ، وكان عمي من مصوع على الطرف الثاني ، وطلب التحدث مع الأخ محمد افندي ، وكلمه ثم وضع السماعة ، ولم اسمع ما دار بينهما من مكالمة ، فقلت للأخ محمد افندي: من المتكلم؟. قال : عمك يتكلم من هناك ويفيد بأن البريد قد وصل من بمباي ، وعلينا أن نرجع هذا اليوم . وقد أسر عمي إلى الأخ محمد افندي بان والدي توفي ،وان عليه أن لا يخبرني بذلك . فرجعنا في اليوم نفسه إلى بلدة مصوع بواسطة القطار، وأثناء الرحلة ، أخذ محمد افندي يسألني عن والدي ، وهل هو على قيد الحياة ، وهل هو أكبرأوأصغر من عمي ، فكنت أجيبه على كل سؤال ، ولم يخطر ببالي أنه قد انتقل الى رحمة الله ، وعندما تركنا محطة القطارعائدين إلى دارنا ، فوجئت بعمي كئيباً حزيناً ، فظننت اولاً أن والدتي قد توفيت ، لأنها كانت تشكو من مرض عضال ، ولماعلمت بالخبر ، صعقت لهوله ، وأشتدت علي وطأة المصيبة ، فجعلت أبكي وانتحب ، وفارقني جلدي المعهود ، وخارت قواي ، فأخذ عمي يخفف علي وقع المصيبة ويعزيني وعيناه تذرفان الدمع، ونسي رحمه الله  حزنه في غمرة أحزاني الشديدة .
كانت تلك االاحداث فئ سنة 1347هجرية ، وكان والدي رحمة الله رجلا على جانب كبير من العقل والمعرفة وحسن الخلق والدين ، ومن خيرة الآباء تربية وحناناً علي ، وعندما هدأت نفسي تذكرت والدتي وطفلي الصغير، الذي توفيت أمه حديثا ، فقررت أن اكتب خطابا إلى أحد أعمامي ، وهو محمد بن عبد الرحمن بن عمران ، الذي كان من خيرة الرجال عموما ومن أكثر أقاربي قرباً إلى نفسي ، ورجوته ان يرحِّل والدتي وطفلي الصغير إلى مدينة الرياض ، فكانت عودتهم مع بقية العائلة في نفس السنة التي حصلت فيها فتنة الإخوان وانتهت بالواقعة المعروفة بينهم وبين الملك عبد العزيز ـ رحمه الله ـ وقد عرفت تلك الواقعة بمعركة
السبلة لأنها  قامت على أرض فيحاء تدعى "السبله" بقرب الزلفي .
وفي تلك السنة قررت أن أحج والحق بعمي الذي توجه إلى جدة لكي يتاجر هناك ، لكنه لم يحصل على ما كان يتمناه ، وفي ذي القعدة وصلت جدة ، وصادف يوم وصولي إليها يوم وصول الملك عبد العزيز ـ رحمه الله ـ قادماً من المدنية المنورة ، فتوجهت أنا وعمي الى القصر بقصد السلام عليه ، وهناك وجدنا أنه قد أقيم حفل كبير أحتفاء بقدومه ، وكان رئيس ( القشلة ) آنذاك الأخ عبد الله بن خثلان ، فارجأنا السلام على جلالته إلى بعد الحفل ، مخافة أن لا يعرفنا من كثرة الناس ، وبعد أن استراح جلالته بعد الحفل ، طلبنا الإذن بالدخول عليه للسلام ، وكانت الساعة آنذاك تقارب الرابعة بالتوقيت الغروبي ، فأذن لنا ودخلنا وسلمنا عليه ورحب بنا ، وبعد تناولنا القهوة بمعية جلالته أمر رحمه الله بأن نبلغ بتناول الغداء معه ، فلم يسعنا الاعتذار.
خرجنا أنا وعمي قاصدين العمرة ، وكان ذلك بعد العصر ، وعندما شاهدت الحرم والكعبة المشرفة ادركني خشوع عظيم ورهبة شديدة ، فطفنا بالبيت وسعينا وتحللنا من الاحرام بالعمرة ، وقصدنا بعد ذلك دار أحد الأقارب في مكة ،الأخ عبد الرحمن بن محمد العبيكان ، وكان آنذاك كاتب البرقيات في ديوان الأمير فيصل نائب جلالة الملك علي الحجاز ،  وفي تلك الاثناء وصل أخي ناصر ومعه بعض الاخوة من أقاربنا وأصدقائنا ، من بينهم عبد العزيز بن ثنيان وصالح بن سعد بن عمران وأبو أحمد بن رشيد ، فأنسنا بهم وحججنا معهم ، وبعد انقضاء موسم الحج رجع عمي الى مصوع عن طريق جدة ، أما أنا فقد ذهبت الى ( أُملج ) بحثا عن المتاجرة في نوع من اللؤلؤ يدعى (الدانة )  يجلب من قبائل جهينة التي تحصل عليه من ساحل السويس ، وفي طريقي مررت بالمدينة المنورة ، وحظيت بالصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالسلام عليه في قبره عليه الصلاة والسلام ، ومكثت هناك ضيفا علي الامير الكريم عبد العزيز بن إبراهيم ، حيث أنزلني في الضيافة ورفض أن أسكن علي حسابي ، وبعد ثلاثة أيام من الإقامة في المدينة المنورة ، توجهت في سيارة البريد الى بلدة ينبع وحللت ضيفاً هناك على أمير البلدة الشيخ عبد العزيز بن معمر ، وقد رحب بي ولم أكن اعرفه من قبل ، وأخبرته عن سبب مجيئي الى تلك البلاد ، وأنني في طريقي الى بلدة أملج ، وسألته عن وسيلة السفر الى هناك ، فأخبرني أن هناك طريقاً تسلكه الجمال ، ولكن اكثر الناس يرغبون السفر على السواعي (المراكب الصغيرة ) ، فاخترت السفر بطريق البحر ، وعندما وصلت الى املج رحب بي اميرها صالح الحميدي واكرم وفادتي وانزلني في بيت خاص للضيافة ، وأصر أن أكون في ضيافته ، ومكثت في أملج قرابة الشهر، ثم توجهت بعد ذلك إلى ينبع علي ظهر مطية ، وفي اليوم الثاني وصلت إلى هناك ، وكانت السماء تمطر طيلة سفري مطرا كثيرا ، وقصدت بيت الإمارة حيث استقبلني الأميرعبدد العزيز بن معمر بالترحاب كعادته ، وبعد يومين بلغني وصول باخرة مصرية تدعى (الطائف ) وهي في طريقها إلى ميناء جدة ، فركبت فيها ، وبعد يومين من إقلاعنا من ميناء ينبع وصلنا جدة ، وبقيت فيها يومين ، ثم قصدت مكة لاداء العمرة ، وعدت بعد ذلك إلى جدة في طريقي إلى مصوع ، فكنت من ضمن ركاب باخرة إيطالية مبحرة إلى هناك ، وبعد ثلاثة أيام من إبحارها من ميناء جدة وصلنا ميناء مصوع ، وهناك وجدت العم ، وكان قد أرسل بضاعته المكونة من اللؤلؤ إلى الهند ، وأرسلت أنا أيضاً إلى صديقنا في الهند كل ما حصلت عليه في تلك الرحلة ، وكان شيئا قليلاً ، ومكثنا في انتظار البضاعة في مصوع ما يقارب الأربعة اشهر ، وفي تلك الاثناء اصيب عمي بمرض شديد كاد أن يهلك بسببه ، فرأيت من الأوفق أن أقترح عليه السفر إلى الحجاز ، مخافة ان يوافيه الاجل في تلك البلدة الاجنبية التي يحكمها الايطاليون وتمارس بها المنكرات علناً ، فوافق عمي على أن يسافر وحده مع الحجاج الى الحجاز في آخر شهر ذي القعدة 1349 هجرية ، وأنقطعت أخباره عني، فاصابني الغم بسبب ذلك ، وبقيت أنتظر كل يوم جواباً منه ، ولكن بدون جدوى ، فأصبحت فريسة للهم والغم ، إلى أن وصلني منه خطاب يبشرني بأنه قد تحسن كثيراً وتمكن من أداء الحج على خير ما يرام ، وأنه عما قريب سوف يتوجه إلى المدينة ، ومنها سوف يقصد حائل ، وطلب مني أن اكتب إلى صديقنا في الهند ليرسل ما لديه من بضاعة اللؤلؤ ، إذا لم يكن قد باعها ، وأن أتولى بيعها في مصوع وأسدد ما عليه من طلبات وديون لاصحابها .